اللامـ.ـركزية في سوريا، خيار استـ.ـراتيجي أم شرط تفـ.ـاوضي للإدارة الـ.ـذاتية؟

قاسم عمر
تُعدّ اللامركزية السياسية اليوم محور المشروع السياسي للإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، إذ تراها الطريق الواقعي والعملي نحو حلّ الأزمة السورية المستمرة منذ أكثر من عقد. هذا التوجّه لا يُطرح كمجرد رؤية إدارية أو مطلب مرحلي، بل كخيار استراتيجي يهدف إلى تأسيس نموذج حكم ديمقراطي يعبّر عن تنوّع المجتمع السوري، ويضع حدّاً لاحتكار السلطة والصلاحيات في مركز واحد.
الإدارة الذاتية تؤكد أن اللامركزية السياسية ليست مطلباً فئوياً أو خاصاً بمنطقة محددة، بل رؤية وطنية لبناء دولة سورية موحدة تقوم على العدالة والمساواة بين جميع المكونات. فالنظام المركزي الأحادي، برأيها، أثبت فشله في إدارة مجتمع متنوع عرقياً وثقافياً ودينياً، بينما يوفّر النظام اللامركزي بيئة تسمح بتوزيع عادل للسلطات والموارد، وتمكين المجتمعات المحلية من المشاركة في اتخاذ القرار.من هذا المنطلق، تعتبر الإدارة الذاتية أن اللامركزية السياسية ليست خياراً تفاوضياً قابلاً للأخذ والردّ، بل مبدأ ثابت في أي رؤية مستقبلية لسوريا. فهي تمثل الضمانة الأساسية لتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي، وإرساء نظام ديمقراطي تشاركي يتيح لكل المكونات إدارة شؤونها ضمن إطار الدولة الواحدة.
تنطلق رؤية الإدارة الذاتية من قناعة راسخة بأن أي عملية تفاوضية أو تسوية سياسية شاملة في سوريا لن تُكتب لها الاستمرارية ما لم تُبنَ على مبدأ اللامركزية السياسية. فالتفكير المركزي في إدارة البلاد، كما ترى، أثبت عجزه عن استيعاب التنوع المجتمعي السوري، وعن معالجة التحديات المتعددة التي تواجه البلاد منذ اندلاع الأزمة.تُعدّ اللامركزية السياسية، وفق هذا الفهم، المدخل الحقيقي لإعادة بناء الثقة بين المكونات السورية، من خلال توزيع متوازن للسلطات والمهام بين المركز والمناطق. فإشراك المجتمعات المحلية في القرار السياسي والإداري لا يعني تفكيك الدولة، بل على العكس، هو ما يضمن وحدتها على أسس العدالة والشراكة.
وترى الإدارة الذاتية أن أي محاولة لفرض نظام مركزي يحتكر القرار والصلاحيات؛ ستعيد إنتاج الأزمات نفسها، وتفتح الباب أمام مزيد من التهميش والصراعات الداخلية. لذلك تعتبر أن اللامركزية السياسية ليست فقط مطلباً سياسياً، بل شرطاً لبناء عقد اجتماعي جديد يعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على قاعدة التوازن والتفاهم.
في هذا السياق، تشدد الإدارة على أن نجاح أي عملية تفاوضية مرهون بمدى استعداد الأطراف الأخرى لتقبّل مفهوم الشراكة الحقيقية، واحترام خصوصية المناطق والمكونات، والتخلي عن نهج الإقصاء والهيمنة الذي طبع الحياة السياسية السورية لعقود طويلة.
تُقدّم الإدارة الذاتية مشروع اللامركزية السياسية ليس كبديل عن الدولة السورية، بل كإطار يضمن بقاءها قوية وموحدة. فالتجارب التاريخية في سوريا والمنطقة أثبتت أن الاحتكار السياسي والاقتصادي في مركز واحد يؤدي إلى الانقسام والتهميش، بينما تسمح اللامركزية ببناء دولة تشاركية قادرة على احتواء اختلافات المجتمع وتنوّعه.
من هذا المنطلق، تعتبر الإدارة أن الوحدة الحقيقية لا تُفرض بالقوة أو بالقرارات المركزية، بل تُبنى عبر الشراكة الطوعية والمشاركة في صنع القرار. فحين يشعر كل مكوّن ومجتمع محلي بأن له دوراً فعلياً في إدارة شؤونه، تترسّخ لديه القناعة بأن الدولة تمثّله وتدافع عن مصالحه، لا أنها سلطة مفروضة من الأعلى.
كما تنظر الإدارة الذاتية إلى اللامركزية السياسية بوصفها ضمانة للعدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة بين المناطق. فالنظام المركزي القديم كان يركّز الموارد والمشاريع في العاصمة والمدن الكبرى، تاركاً الأطراف في حالة من التهميش الاقتصادي والخدماتي. أما في النظام اللامركزي، فيجري توزيع الموارد وفق احتياجات كل منطقة، مما يفتح الباب أمام تنمية محلية حقيقية تسهم في رفع مستوى المعيشة وتعزيز الاستقرار.
في المحصلة، تطرح الإدارة الذاتية رؤيتها للامركزية باعتبارها نموذجاً سياسياً جديداً لسوريا المستقبل، دولة لا مركزية ديمقراطية تعددية، تُبنى على العدالة والمساواة وحقوق المكونات والمرأة، وتُدار عبر مؤسسات تشاركية تضمن التوازن بين المركز والمناطق.
هذه الرؤية، كما تصوغها الإدارة، ليست مجرد مطلب سياسي، بل مشروع وطني شامل يهدف إلى إنهاء مرحلة الصراع وبناء دولة مستقرة لجميع السوريين.