في الخطاب التصعيدي لدمشق ضد الإدارة الذاتية

محمود علي
عادت تركيا لتلوّح بورقة التهديد العسكري بشن غزو ضد مناطق شمال وشرق سوريا، كجزء من سياستها القديمة – الجديدة، والتي تعكس محاولة ممارسة ضغوط متزايدة على الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، وحملها على قبول شروط دمشق بنزع سلاحها، وتسليم مناطقها إلى الحكومة المؤقتة، دون أي اعتبار لخصوصية وإرادة مكوناتها، لتتصرف كدولة احتلال لها مطلق الصلاحية في تقرير مصير بلد واقع تحت وصايتها واحتلالها.
إلا أن ما يعمق التراجيديا السورية أكثر، يتجلى في التناغم الفاضح ما بين تصريحات المسؤولين الأتراك، وتصريحات الرئيس السوري المؤقت “أحمد الشرع”، والتي لها دلالاتها البعيدة، تتجاوز في بعدها الوطني قضية العلاقات الثنائية، لترسخ تبعية مطلقة لأنقرة، وتنسف كل المسلمات الوطنية السورية، وتشوه قيم ومعاني السيادة، وتحوّله إلى ما يشبه الحاكم العثماني في دمشق، ولكن بلبوس جديد، مهمته تنفيذ الأجندات والمشاريع التركية على الأراضي السورية، ولا شيء غيره.
تهديدات الشرع العلنية بأن تركيا ستعمد إلى شن عملية ضد قوات سوريا الديمقراطية، إن لم تنفذ بنود اتفاقية 10 مارس/ آذار الماضي حتى نهاية ديسمبر/ كانون الأول القادم – طبعاً وفق فهم الشرع للاتفاقية، والذي ما هو إلا شرط تركي، يقضي بنزع سلاح (قسد) وحل نفسه ضمن ما يسمى “الجيش السوري” – وكأنه يحارب بالبندقية التركية ضد أبناء شعبه، ويمهل (قسد) بالانضمام إلى الجيش السوري – الذي لم ولن يتشكل بعد – وتسليم مناطق الإدارة الذاتية للحكومة السورية التي شَكَّلَها على مقاسه وبما يتناسب مع المصالح التركية، وبالتالي حل الإدارة الذاتية أيضاً.
الشرع لا يجد حرجاً أن يتحدث وكأنه مندوب تركيا في سوريا، فلو كان واثقاً من نفسه وقواته لفتح أي مواجهة مع قوات سوريا الديمقراطية، ربما تحدث بطريقة مختلفة، فهو لا يراهن على قواته، والتي ما هي إلا مجاميع تضم بين صفوفها العديد من الفصائل المدرجة على قوائم الإرهاب العالمي، إضافة إلى مرتزقة الاحتلال التركي.
فيما (قسد) تطرح الاندماج ضمن “الجيش السوري” ككتلة واحدة، على أن يكون انتشارها الرئيسي في مناطقها، ولا مانع في نشر بعض قواتها في مناطق سوريا الأخرى أيضاً. وإن كان الشرع يدَّعي أن سوريا تركت الحرب وراءها وأصبحت من الماضي المرتبط بالنظام البائد؛ فلماذا عندما يتعلق الموضوع بالشعب الكردي يعيد التلويح بالحرب ومن تحت العباءة التركية. فإن كان بطانته تروج له بأنه شخص براغماتي يجيد المراوغة؛ لماذا أخفق هذه المرة في تقديم سبب منطقي ومبرر عقلاني لشن أي حرب على مناطق شمال وشرق سوريا، غير الانقياد وراء المشاريع التركية التقسيمية في سوريا، فإن كان لا يدري فتلك مصيبة، وإن يدري ويقدم عليها، فالمصيبة أكبر، وقد تودي بسوريا للعودة إلى المربع العنفي الأول.
السؤال الذي يطرح نفسه بشكل مباشر؛ هل هناك جيش سوري حتى يطالب الشرع (قسد) بالانضمام إليه، فما تزال جميع فصائل المرتزقة التابعة لتركيا غير خاضعة لسلطة دمشق، ولا تعمل وفق قرارات ما تسمى “وزارة الدفاع”، وأعضاؤها يتقاضون رواتبهم من الدولة التركية، والتي عمدت إلى زيادتها في الآونة الأخيرة بنسبة خمسين بالمئة. الواضح أن دعوة الشرع ما هي إلا تنفيذ للضغوط التركية التي تجد في (قسد) والإدارة الذاتية ما يؤرقها ويعرقل مشاريعها في سوريا، وهو ما دفع الشرع للادعاء بأن وجود الإدارة يشكل خطراً على كل من تركيا والعراق، ليبرر بذلك أي هجوم تركي على تلك المناطق، وكأنها ليست جزءاً من سوريا، وليردد مقولة النظام البائد.
كما أفصح الشرع في حديثه إلى صحيفة “مللييت” التركية، عن رفضه لكل أشكال اللا مركزية والفيدرالية، زاعماً أن كل مطالب الإدارة الذاتية في اللامركزية موجودة في قانون الإدارة المحلية /107/ الذي وضعه النظام السابق، متجاهلاً حقوق مكونات الشعب السوري. إن هذا الفكر الإقصائي يتقاطع مع الفكر “البعثي” البائد، ولن ينتج سوى مركزية مفرطة، والتي هي سبب كل الويلات التي حلت بسوريا منذ أكثر من خمسين عاماً، ويبدو من كلام “الشرع” أنه يريد إعادة إنتاج ذلك الاستبداد الذي بدوره ينتج ديكتاتورية مغلفة بالدين وممزوجة بالقومية. فهو بكل بساطة يختصر مطالب مكونات وشعوب لها ثقافة وتاريخ عريق في سوريا مثل الشعب الكردي والسرياني – الآشوري في قانون لا يرقى حتى إلى مستوى الحديث والنقاش حوله.
تأكيد (قسد) على استعدادها للاندماج مع الجيش السوري، وضرورة الحفظ على وقف إطلاق النار، وقطع الطريق أمام بعض المجموعات الموالية لحكومة دمشق لجر المنطقة ومعها سوريا إلى حرب، لا يتكهن أحد بنتائجها، إنما هو تأكيد على نواياها في الوصول إلى حل وطني مستدام في سوريا، يمكن البناء عليه في انتشالها من أزمتها المتفاقمة، وإعادة بناء اللحمة الوطنية، ووضع البلاد على سكة التغيير الديمقراطي، والتعافي من الآلام والجراح التي سببتها سنين الحرب. وإنه لمن الجهل التام بموازين القوى وتعقيدات المشهد السوري؛ أن أي مواجهة مع قوات سوريا الديمقراطية ستبقى محصورة في مناطق شمال وشرق سوريا، خاصة أن سوريا برمتها تغلي على صفيح من نار. التراكمات السلبية التي خلفها النظام البائد، علاوة على النهج المتطرف للحكومة الحالية وتوجهاتها الإقصائية والدموية، ستكون سبباً كافياً لاشتعال الحرائق والحرب على طول الجغرافيا السورية، ولن يكون بمقدورها حينها ولا بمقدور حلفائها، وخاصة تركيا، من إخمادها. حجم الأحقاد التي زرعتها الحكومة الحالية لدى معظم مكونات الشعب السوري تجاهها، خاصة بعد المجازر في الساحل السوري والسويداء وفي ريف دمشق ضد الدروز والعلويين، وحالات القتل والخطف المستمرة يومياً، كلها تجعل مصير الحكومة الحالية على كف عفريت. فحالة الاحتقان السائدة في الشارع السوري من خلال ممارسات أجهزة نظام الشرع، ستتحول إلى قنابل تنفجر بمجرد أي شرارة تندلع في شمال وشرق سوريا، وحينها ستدخل البلاد في فوضى الحرب الأهلية، ما قد يستدعي تدخلاً دولياً تحت الفصل السابع وفق ميثاق مجلس الأمن الدولي، أي وضع سوريا تحت الوصاية الدولية.
وفي الجانب التشريعي والقانوني؛ فإن الشرع يسير نحو فرض ديكتاتورية تتجاوز في بعض مفاصلها ديكتاتورية الأسدين، فقد استحوذ على جميع السلطات التشريعية والتنفيذية والعسكرية والقضائية، وألغى قانون الأحزاب، ووضع إعلاناً دستورياً يتناسب وطموحه في الاستفراد بحكم البلاد.
غير أن ما يثير القلق والاشمئزاز أكثر لدى السوريين، لماذا تبدي الحكومة المؤقتة كل المرونة والليونة في التعامل مع الدول الغربية، وكذلك إسرائيل، وتقدم كل أشكال التنازلات لها، وهي بصدد توقيع اتفاقية أمنية مع الأخيرة، كتمهيد لتطبيع العلاقات وتوقيع اتفاقية سلام معها، أو الدخول ضمن الاتفاقات الإبراهيمية، في حين ترفض المصالحة مع المكونات السورية المختلفة، وتنظر إليها أنها معادية لها، وتتعامل معها بمنطق القوة والاستعلاء. يبدو أن محاباة الشرع وحكومته للدول الغربية وروسيا وبعض الدول الخليجية وفي مقدمتها قطر، تأتي من زاوية أنها هي التي عوَّمت نظامه، فهو لم يصل إلى القصر الجمهوري عبر انتخابات أو استفتاء، كما قال السيد “آلدار خليل”.
كان الأجدى بالشرع أن يمد يد السلام إلى جميع المكونات السورية التي تمزّقت عُرى التواصل بينها بفعل الحرب، لا أن ينتهج خطاباً طائفياً تصعيدياً ضدها، يكرس للقطيعة الكاملة بينها. فما حصل في السويداء وانتهاج حكومته نهجاً خارج إطار الدولة السورية، لما كان حدث لولا الانتهاكات التي ارتكبتها قوات الشرع فيها. وإن كان يوجه الاتهامات إلى (قسد) والإدارة الذاتية بأن مطالبتها باللا مركزية أو الفيدرالية تُعَدُّ دعوى “انفصالية”، فإن السياسة التي يتبعها في سوريا تؤدي إلى تقسيم البلاد وشرذمتها. وإن كانت السويداء اليوم، يمكن أن يكون الساحل السوري غداً.
ما هو يقين لدى معظم النخب السورية ومكونات سوريا أن “الشرع” وحكومته لن يتمكنا من تجاوز حالة التقسيم السائدة في سوريا إلا إذا تعاونا مع قوات سوريا الديمقراطية بشكل منفتح على قبول الآخر المختلف، وهي وحدها القادرة على زرع ثقة الشعب به وبحكومته، وهي ستحد من التدخلات الخارجية في الشأن السوري، وتفتح الطريق أمام إرساء أسس بناء سوريا جديدة ديمقراطية تحفظ حقوق جميع مكوناتها على اختلاف انتماءاتهم الدينية والمذهبية والسياسية والعرقية، وما عداه ليس إلا الفوضى والسير نحو المجهول.