
أجرى قائد القوات الأمريكية المركزية الأدميرال “براد كوبر”، قبل أيام، زيارة إلى مناطق شمال وشرق سوريا، وتجول في مخيم الهول، كما اجتمع مع قائد قوات سوريا الديمقراطية “مظلوم عبدي”. وصدر بيان عن القيادة المركزية للقوات الأمريكية، يوم الجمعة الماضي، أشادت فيه بجهود “الشركاء في قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية في خفض عدد قاطني مخيم الهول وروج”. وذكرت القيادة المركزية أن عدد القاطنين في المخيمين انخفض لأول مرة إلى أقل من 30 ألف شخص.
وقال “كوبر” إن “إعادة الترحيل تقلل من فرص التأثير المتطرف، لا سيما بين النساء والأطفال المعرّضين للخطر”.
توقيت زيارة “كوبر” واجتماعه مع الجنرال “عبدي” أرسل عدة رسائل، وفي اتجاهات مختلفة، أولها أن الولايات المتحدة ترى في مناطق شمال وشرق سوريا، بديلاً لها بعد انسحاب قواتها من بغداد. حيث نقلت عدة مصادر إعلامية أن الولايات المتحدة تخطط لتوزيع قواتها المنسحبة من بغداد، بين مناطق إقليم كردستان وشمال وشرق سوريا، وهذا يقود إلى الاعتقاد أن واشنطن تسعى إلى تعزيز تواجدها العسكري في المنطقتين، على عكس ما تم الترويج له قبل فترة بأنها بصدد سحب كامل قواتها من مناطق شمال وشرق سوريا.
ونقلت وسائل إعلام تركية مقربة من الحكومة، أن الولايات المتحدة تغلق مساحات التحرك أمام تركيا في سوريا، وأنه تم تأكيد ذلك من خلال زيارة “كوبر” إلى مناطق شمال وشرق سوريا واجتماعه مع قائد (قسد)، وهو ما أزعج تركيا، التي بدأ إعلامها يدق طبول حرب ضد مناطق الإدارة الذاتية، بالتزامن مع التصريحات الصادرة عن زعيم حزب الحركة القومية الفاشي “دولت باهجلي”، الذي هدد بشكل مباشر (قسد) بعملية عسكرية إن لم ينزع سلاحه، معتبراً أن ما دعا إليه الزعيم الكردي “عبد الله أوجلان” بحل حزب العمال الكردستاني ونزع سلاحه إنما يسري على قوات سوريا الديمقراطية أيضاً. فيما لم يتوقف وزير خارجيته “حقان فيدان” عن إطلاق التهديد تلو الآخر، ملوحاً إلى مشاركة قوات بلاده مع قوات ما أسماه “الحكومة السورية” في شن هجوم على مناطق شمال وشرق سوريا، وكأنه هو من يدير سوريا.
هذا في حين دفعت تركيا مرتزقتها للانتشار في محيط حيي الشيخ مقصود والأشرفية بمدينة حلب، استعداداً لأي هجوم قد تشنه على الحيين، وبأوامر تركية مباشرة.
غير أن تصريحات ممثلي الإدارة الذاتية جاءت في سياق أخر، وبدت وكأنها تعرقل المخططات التركية الهادفة إلى بسط سيطرتها على كامل الجغرافيا السورية، حيث شدد نائب الرئاسة المشتركة لدائرة العلاقات الخارجية “بدران جيا كرد” في حديث له مع قناة “العربية – الحدث” وصحيفة “النهار” اللبنانية، على تمسك الإدارة الذاتية بخيار الحوار مع حكومة دمشق، وكشف أن دمشق طلبت منهم في آخر لقاء بينهما، تقديم اقتراحاتهم بشأن تعديل الإعلان الدستوري، وقال إنهم جاهزون للدخول في مناقشة تفاصيل البنود الواردة في اتفاقية 10 مارس/ آذار الموقعة بين الجنرال “مظلوم عبدي” والرئيس السوري المؤقت “أحمد الشرع”.
وعن أسباب عدم تنفيذ بنود الاتفاقية، قال “كرد” إن “الأسباب الأساسية التي تؤدي إلى عدم تنفيذه أولاً تتعلق بكيفية تفسير بنود هذا الاتفاق”. وبخصوص عملية الاندماج بين الإدارة الذاتية وحكومة دمشق، أشار إلى رؤية الإدارة الذاتية بالقول “نرى أن عملية الاندماج التي وردت في نص الاتفاق يجب أن تكون ديموقراطية وتكاملية”، موضحاً “يجب أن تكون مؤسسات الإدارة الذاتية العسكرية والسياسية هي مؤسسات تتكامل مع مؤسسات الدولة السورية وليست منفصلة عنها”، متابعاً القول ” يجب أن يتم الحفاظ على الهوية السياسية الثقافية العرقية الدينية لمكونات شمال سوريا وشرقها وعلى إرادتهم ضمن المؤسسات السورية الوطنية العامة”.
وحول موقف دمشق من عملية الاندماج، أوضح “أما السلطات الموقتة في دمشق، فهي تنظر إلى عملية الاندماج بشكل آخر، وتريد حل جميع المؤسسات ضمن بوتقة نظام شديد المركزية لا يعترف بهويات أخرى أو بثقافات أخرى”.
وفيما يتعلق بدور تركيا وعقيدة الجيش السوري، أوضح “لا نرى أن الجيش السوري ذو عقيدة وطنية سورية جامعة تحافظ على وحدة الأراضي السورية وتدافع عن سوريا بكل مكوناتها، وإنما الحالة الفصائلية لاتزال هي السائدة”، مردفاً بالقول “كل فصيل له امتيازاته وقياداته وسلاحه ومناطق متمسك بها”. معتبراً أن “هذه الحالة الفصائلية لا يمكن أن تؤدي إلى تشكيل جيش وطني سوري”. كاشفاً “كذلك، هناك مجموعات متطرفة وأعداد كبيرة من الأجانب فيما يسمونه الجيش السوري، أو يعملون تحت سقف وزارة الدفاع السورية”. معللاً بأن “كل هذه القضايا تشكل قضايا إشكالية بالنسبة لعملية الاندماج وأيضاً في تأمين الاستمرار في المرحلة الانتقالية”.
وعزى المسؤول الكردي أسباب تعثر المفاوضات بين الإدارة الذاتية ودمشق إلى أن “السلطات الموقتة تفتقر إلى الإرادة والتصميم”، وأن “هناك تأثير تركي على قرار السلطات المؤقتة في دمشق”، معتبراً أنها تشكل أهم التحديات التي تواجه تنفيذ الاتفاق.
وإزاء موقف الإدارة الذاتية من تنفيذ الاتفاق، شدد “جيا كرد” على القول “نحن ملتزمون بتنفيذ الاتفاق ومتمسكون به، ونرى أنه اتفاق تاريخي ومهم لجميع أبناء سوريا، ويمكن من خلاله رسم مستقبل جديد لكل السوريين”.
ولفت “جيا كرد” إلى أن هناك حوارات مستمرة بينهم وأن قنوات الحوار مفتوحة دائماً على مستوى لجان اختصاصية وعلى مستوى الإدارات.
وحول نظام الحكم في سوريا، أشار إلى أنهم طرحوا الكثير من القضايا فيما يتعلق بنظام الحكم، وشدد على القول “يجب أن يكون لا مركزياً سياسياً”، وأن يضمن حقوق جميع المكونات، بما فيها حقوق الشعب الكردي المشروعة في الدستور السوري، وكذلك حقوق المرأة، وحرية ممارسة الحقوق السياسية والثقافية، معتبراً أن هذه الأمور “بحاجة إلى تعديلات كثيرة”، مشيراً إلى أن هذه المسائل “لم يتم أخذها في الاعتبار في الإعلان الدستوري الذي تم إعلانه بعد يومين من الاتفاق”، حسب وصفه.
وتطرق “جيا كرد” في حديثه إلى العلاقة بين “قسد” والولايات المتحدة، موضحاً أن “الشراكة لا تزال مستمرة بين “قسد” والتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة”، مبيّناً أن “هذه الشراكة مبنية على أساس محاربة “داعش” ولا تزال توسّع إطارها لكون وجود التنظيم أصبح كبيراً بعد سقوط النظام البعثي”. مبدياً رغبة الإدارة الذاتية لأن تلعب الإدارة الأمريكية دوراً سياسياً وازناً في التوصل إلى حل سياسي توافقي يخدم جميع المكونات السورية.
تركيا المتخوفة من تمدد المشروع الإسرائيلي المدعوم أمريكياً وأوروبياً، تخشى على فقدانها نفوذها في سوريا كلياً، وتضغط على الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية والتلويح مجدداً بورقة شن هجوم عسكري، بغية خلط الأوراق والاصطياد بالمياه العكرة، وعرقلة المشروع الإسرائيلي – الغربي في سوريا. فحسب ما تداولته وسائل إعلام غربية، أن تركيا أدخلت خلال خمسة أشهر الماضية أكثر من 25 ألف إرهابي إلى سوريا، ونشرتهم في عدة مناطق، وخاصة في مناطق الساحل السوري، وزجت بقسم كبير منهم في معارك السويداء. الإرهابيين الأجانب هي الورقة التي طالما تهدد بها تركيا.
تسعى تركيا إلى فرض الاستسلام على قوات سوريا الديمقراطية، عبر الضغط عليها لتسليم سلاحها إلى دمشق دون أي شروط، وهو ما لم ولن تقبل به (قسد)، ما يجعل تنفيذ الاتفاق مرهوناً بالوسطاء الغربيين، وخاصة الولايات المتحدة وفرنسا، فيما أبدت بريطانيا ترددها، وفق ما أعلن عنه عضو المجلس الرئاسي لحزب الاتحاد الديمقراطي “صالح مسلم” في لقائه مع قناة روداو قبل أيام، حيث أشار أن الدول الغربية لها دور كبير في تقريب وجهات النظر مع دمشق، كاشفاً أنه لاتزال هناك فرصة لعقد اجتماع باريس بين وفد الإدارة الذاتية ودمشق، موضحاً أن تركيا أفشلته لإدراكها أن سيكون مفصلياً لجهة الوصول إلى نتائج حاسمة في مسار التفاوض مع دمشق، وكذلك لحل الأزمة السورية ووضع رؤية وتصور مشترك لبناء سوريا. واجتماع عمان الذي عقد بمشاركة “مظلوم عبدي” و”إلهام أحمد” مع وفد أمريكي، وضع مساراً عملياً لاستئناف الحوار بين الإدارة الذاتية ودمشق، تلتها زيارة “إلهام أحمد” دمشق واجتماعها مع وزير الخارجية “أسعد الشيباني”. فيما زيارة مستشار عضو الكونغرس الأمريكي “إبراهيم حمادة”، وكذلك وفد ألماني، إلى حيي الشيخ مقصود والأشرفية بحلب، منح الإدارة الذاتية قدرة أكبر على التحرك الدبلوماسي والضغط على كل أنقرة والحيلولة دون العبث في سوريا، إضافة أنها شكلت ضغطاً على دمشق للعودة إلى طاولة الحوار مجدداً.
إن إمكانية شن تركيا هجوماً على مناطق شمال وشرق سوريا، تبدو ضعيفة جداً في ظل تطورات المشهد السوري، السياسي والعسكري، حيث رسمت الولايات المتحدة خطوطاً حمراء أمامها، فيما الاحتمال الأقوى إنه في حال تهورت تركيا وقامت بفعل من هذا القبيل، فإنها ستُشعل ساحة باكور كردستان برمتها، وبشكل أقوى مما حصل أثناء هجوم تنظيم “داعش” الإرهابي على مدينة كوباني، وهذا ما يعني أنها ستفتح على نفسها أبواب الجحيم، وأولها أن عملية السلام التي أطلقها القائد “أوجلان” ستنهار برمتها، ما يدفع تركيا نحو مصير مجهول، في ظل المتغيرات المتسارعة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط.