مرة أخرى.. العشائر وزجها في معترك لعبة الصراع على السلطة

محمود علي
ماتزال الحكومة الانتقالية في دمشق تحاول جاهدة الاستثمار في ورقة العشائر العربية وزجها في معارك وهمية، لا تحقق شيئاً سوى تعميق الشرخ المجتمعي، وإشعال حرائق جديدة في الساحة السورية الملتهبة أصلاً.
لقد عُرِفَتْ العشائر العربية طيلة تاريخها الممتد لمئات السنين بقيمها الأصيلة في توطيد أواصر التعاون والتعاضد المجتمعي، وبناء مجتمعات متماسكة. ففي العهد القريب، وبعد بناء الدولة السورية، ساهمت بشكل فعّال في رفض كل المشاريع التقسيمية، ولعبت أدواراً تاريخية في إعادة ترميم النسيج الوطني السوري، وحملت مسؤولياتها في المعارك “الوطنية”، وأبدت مواقف مشرّفة ما تزال الأجيال اللاحقة تنهل من مَعينها، وفي ذات الوقت شكّلت قاعدة ارتكاز وطني تمكنت من توحيد سوريا سياسياً وثقافياً، وقبل كل شيء اجتماعياً.
هذا الدور التاريخي والمميز للعشائر؛ جعلها في مركز الاهتمام والاستقطاب الوطني، وانبرت معظم الأنظمة والحكومات المتعاقبة على السلطة للاعتماد عليها، وبشكل فج ووقح، في تنفيذ مشاريعها الخاصة وتكريس أنظمتها، التي كانت العشائر أولى ضحاياها.
ورغم محاولات تلك الأنظمة تفكيك البنية الاجتماعية للعديد من العشائر؛ إلا أنها قاومت وحافظت على كينونتها، كأحد التشكيلات المجتمعية التي تمتد في عمق التاريخ والحضارة، ومنذ عهد المجتمع النيوليتي، حيث تمثَّلَ أول تشكيل مجتمعي في “الكلان – القبيلة”، ومن ثم تطورت إلى الأقوام والأمم، عبر تجمع وكونفدرالية عدد من “الكلانات – القبائل”، لتنتج ثقافة ولغة خاصة بها. إذاً العشيرة – القبيلة تشكلت في عصور ما قبل الدولة، وقيمها الثقافية الأصيلة استمرت رغم تغير أشكال الدول والكيانات التي انبثقت عبر التاريخ.
والنظام السوري البائد لعب بورقة العشائر، وأحدث انقسامات عديدة في الجسد السوري، عبر استمالة بعض رؤساء وأعيان العشائر، ومنحهم مزايا شخصية على حساب الكتلة الشعبية لعشائرهم، ليمثلوا تناقضاً صارخاً بين قيم وتوجهات العشائر وبين ميولهم الانتهازية. والأمثلة عديدة في تحويل بعض هؤلاء بوصلتهم نحو التحالف مع إيران، وحتى تغيير مذهبهم الديني، وتشكيل قوى عسكرية موازية لقوات النظام، والدخول في معارك ليس لهم فيها لا ناقة ولا جمل، ولترتد نتائجها السلبية عليهم بالدرجة الأولى.
تُعيدُ السلطة الراهنة تكرار سيناريو النظام البائد، بل بشكل وصور أبشع منها. التهافت الإعلامي، وفتح منابرها أمام صغار النفوس والشخصيات المنحلة من قيم العشيرة، التي تمثل العوام والرعاع منهم، وليس أبناء العشيرة الأصلاء المتمسكين بقيمها وأعرافها، شوَّهَ صورة العشيرة بالذات. تقديم الإعلام السلطوي لشخصيات ممسوخة تدعي أنها تمثل العشيرة، ما هي إلا محاولة يائسة في زرع الفتنة حتى داخل العشيرة الواحدة نفسها، مثل ذاك الذي يدعي أنه يمثل قبيلة “الجبور”، زوراً وبهتاناً، رغم أن تاريخه الدموي معروف لدى كل السوريين، حيث شارك في عمليات السرقة (سرقة القمح من صوامع منطقة صباح الخير على الطريق بين الرقة والحسكة (طريق أبيض)، وكذلك سرق النفط والغاز من حقول الجبسة)، والآن تقدمه السلطة على أنه يمثل قبيلة عريقة في سوريا، لها امتداد في باقي الدول العربية، رغم أن مشيخة قبيلة الجبور معروفة أنها محصورة بعائلة “المسلط” المحترمة. وديدن السلطة دفع بعض العشائر لمواجهة اخوتهم في العشائر الأخرى في مناطق شمال وشرق سوريا، وحتى اخوتهم في العشيرة نفسها، حيث أن ممارسات السلطة إن استمرت على هذا المنوال، ستحدث انقساماً داخل العشيرة الواحدة أيضاً، وهذا أخطر ما يهدد المجتمع السوري، لترى الأخوة أبناء الدم الواحد يرفعون السلاح ضد بعضهم. ويبدو أن السلطة تحاول من خلال هذه اللعبة الاصطياد في المستنقعات الآسنة، أو أنها لا تدرك خطورة خطوتها هذه، وهذا هو الأدهى والأخطر على الإطلاق.
هذا التلاعب اللا أخلاقي بالقيم العشائرية؛ دفع العديد من شيوخ ووجهاء العشائر في مناطق شمال وشرق سوريا، للرد على ادعاءات إعلام وممثلي السلطة الراهنة، فالمتحدث باسم قبيلة “الجبور” الشيخ “أكرم محشوش” فنّد في أكثر من مناسبة مزاعم السلطة، وبعض الممالئين لها ممن يدعون أنهم يمثلون العشائر، ورفض البيان الذي ادعى أنه صُدِرَ باسم العشائر والقبائل العربية في سوريا، كما نفى بشكل مطلق أن تكون هناك مشيخة أخرى غير مشيخة آل “المسلط” تمثل قبيلة “الجبور” في سوريا وخارجها أيضاً. ودعا في إحدى تصريحاته السلطة الراهنة للعمل على إشراك كل مكونات الشعب السوري في الوصول إلى دولة ديمقراطية لا مركزية.
وشيخ مشايخ عشائر “شمر”، “مانع حميدي دهام الجربا”، هو الآخر رد على اتهامات السلطة بأن الإدارة الذاتية لا تطالب بـ”الانفصال” عن سوريا، مؤكداً أن لا أحد في سوريا يريد الانفصال، بل الكل، وعلى مختلف انتماءاته السياسية والدينية والعرقية يطالب بالحقوق، والدولة إن كانت فعلاً دولة عادلة يجب عليها أن تلبي تلك الدعوة بصدر رحب وتمنح الحقوق، وألا تعمل على بث الفتن الطائفية والعشائرية والتعويل على الاقتتال بين العشائر، ورفض “مانع” الانجرار وراء تلك الدعوات التي تعمل على تحريض العشائر ضد بعضها، كاشفاً أن هذا الأسلوب لا يخدم السلطة بل يضعفها وينسف مشروعيتها أيضاً.
ردود الفعل الرافضة لإقحام العشائر في معارك الصراع على السلطة؛ إحداها جاءت خلال حديث الشيخ “فايز حسين الجدعان”، شيخ عشيرة “البوشيخ” من قبيلة “البكارة”، مع وكالة “هاوار”، ليؤكد أن وجهاء العشائر في المنطقة يعملون على صون السلم الأهلي، وهذا هو دورهم الحقيقي، وشدد أن ما جرى في السويداء ما هو إلا “محاولة متعمدة لتشويه صورة العشائر الحقيقية، وإثارة الفتن بين السوريين”، وأن الخروج من الأزمة التي أوقع النظام نفسه فيها يمر عبر تنفيذ اتفاق 10 مارس/ آذار الذي وقعه كل من قائد قوات سوريا الديمقراطية الجنرال “مظلوم عبدي” والرئيس السوري المؤقت “أحمد الشرع”، واستكمال الحوار والمفاوضات بين دمشق والإدارة الذاتية، للوصول إلى سوريا تشاركية يتساوى فيها الجميع. كما دعا إلى تحريم دم السوري على السوري، والإسراع في عقد مؤتمر وطني سوري جامع، ليقرر فيه السوريين مصيرهم بأيديهم.
انبرت السلطة في الآونة الأخيرة، وبعد تدويل ملف الجرائم التي ارتكبتها قواتها في السويداء، إلى التبرؤ من العشائر، وتحميلها وزر تلك الأفعال والجرائم، معتبرة نفسها غير مسؤولة عن تصرفاتها، رغم أن الرئيس السوري المؤقت “الشرع” أشاد في خطاب له عقب دخول قواته السويداء والسيطرة على بعض شوارعها، بدور العشائر، وحثها على الاستمرار في مشاركتها إلى جانب قواته في عملها على بسط سيطرتها على السويداء. هذا التغير غير المفاجئ والمتوقع من السلطة، يجعل أي مراهنة على التمسك بها، وتنفيذ إملاءاتها أمراً محفوفاً بالمخاطر، لن ينال صاحبها غير الخزي والخُسران في نهاية الأمر. والأجدى بتلك العشائر أن تعود إلى جذورها، وتتمسك بقيمها وأعرافها، ولا تنجر خلف “الهوبرة” والحالة الشعبوية الممسوخة التي تروج لها السلطة وإعلامها الذي فقد مصداقيته أمام أول امتحان له، إن كان في نقل حقائق الأحداث في الساحل السوري، أو لاحقاً في السويداء.
مثلما كان “الكلان – القبيلة – العشيرة” عابرة للقوميات والأمم والجغرافيا والحدود السياسية التي رسمتها مسطرة الاستعمار، فإنها ستتجاوز في الحالة السورية الراهنة، وأي مراهنة عليها من قبل بعض الأطراف في خلق واقع سياسي وعسكري منفلت من عقاله، ستبوء بالفشل، ولن تكون العشائر وقود صراع ونفوذ على السلطة، وبدعم من بعض القوى الإقليمية. إن المخزون الثقافي والتراث المادي والمعنوي للعشائر كفيل بإفشال كل المخططات التي تضعها تلك القوى على تحرك العشائر ووضعها في المحرقة، بل المؤكد أنها ستحافظ على توازنها من خلال تمسكها بقيمها وأعرافها التي اعتادت عليها، ولن تكون بيدقاً بيد أحد لتحركها كيفما تشاء، وخير دليل على ذلك مواقف العشائر والقبائل في مناطق شمال وشرق سوريا.