مانشيتمقالات رأي

كونفرانس الحسكة ورسم المسار الوطني السوري

محمود علي

شكَّل كونفرانس “وحدة الموقف لمكونات شمال وشرق سوريا”، مرحلة مفصلية ومنعطفاً جديداً وحاسماً، ليس في مناطق الإدارة الذاتية فقط، بل في جميع أنحاء سوريا، لجهة مشاركة معظم مكونات الشعب السوري، بتنويعاته السياسية والإثنية والدينية المختلفة، وعبرت فيه بكل جلاء ووضوح عن رؤاها لمستقبل سوريا، وحددت خياراتها، وبكل ما تحمله من تبعات وانعكاسات على واقع اللعبة السياسية التي تُدارُ ليس في دمشق – وللأسف الشديد – بل في أكثر من عاصمة إقليمية ودولية.

الكونفرانس، رمى بالكرة في ملعب حكومة دمشق الانتقالية، التي تترنَّح بين ضغوطات الداخل وشروط الخارج المجحفة والمتنكرة لتطلعات الشعب السوري، وأعاد بكل قوة القرار السوري للسوريين أنفسهم، دون أي مواربة أو تماهٍ مع أي من الأجندات اللا وطنية، وليضع قضية ومستقبل سوريا كوطن تحتضن جميع أبنائها بين أيدي السوريين، ويعيد رسم المشهد السوري بكل تجلياته وفق منطور وطن يئن تحت أزمة ما تزال مستمرة بكل عناوينها السياسية والعسكرية والدينية والطائفية والاقتصادية، ويسعى للخروج منها معافى دون أدران قد عُلِقت به.

الاتجاه الذي رسمه الكونفرانس من خلال قراراته وتوصياته؛ أثار تفاعلاً كبيراً بين السوريين، لجهة تبلور صيغة حل وطني يتطلع إليها بفارغ الصبر جميع السوريين في الداخل والخارج، فيما أقطاب السلطة الراهنة والموالون لها أثاروا جدلاً بيزنطياً لا معنى له، وأقاموا الدنيا ولم يقعدوها، وكالوا بشتى التوصيفات على الكونفرانس، متهمين إياه بـ”الانفصالية”، وأنه “يدعو العلمانية ويجمع حوله شيوخ الدين” وأنه مجرد “تحالف للأقليات” و”تجمع لفلول النظام”، وهي تهم ممجوجة لا طائل منها، وتعبّر عن حالة الضيق والحرج التي تعيشها الحكومة بعد انعقاد الكونفرانس، حيث أنه – أي الكونفرانس – نجح فيما فشلت فيه تلك الحكومة ذات اللون الواحد، وفتح طريقاً جديداً للسوريين نحو إعادة بناء بلادهم على أسس وطنية وديمقراطية، بعيداً عن التجاذبات الطائفية والمذهبية، وكذلك الإملاءات والأجندات الإقليمية والدولية، وما أكثرها.

رغم أن الكونفرانس دعا إلى وحدة الأراضي السورية وسيادتها، إلى جانب تأكيده على الحوار الوطني الشامل، وتمسك الممثلين في الكونفرانس بالحوار الوطني كمدخل لحل الأزمة السورية، وانتشال سوريا من بؤرة الإرهاب والقتل اليومي، وقطع الطريق على كل التدخلات الخارجية في الشأن السوري، إلا أن البيان الصادر عن الخارجية السورية، حاول قلب الحقائق رأساً على عقب، من خلال الخروج عن مضامين الكونفرانس، وعدم تكليف نفسها عناء قراءة مقرراته ومخرجاته برؤية وطنية، فهي اعتادت أن تنظر إلى كل خطوة خارج إرادتها بأنها “ضد السيادة السورية، وتهدد الوحدة الوطنية”، لتعيد بذلك النفخ في القربة المثقوبة للنظام البائد، التي طالما كان يختبئ خلفها لارتكاب كل الموبقات بحق الشعب السوري.

إن قرار الحكومة بتعليق ووقف الحوار مع الإدارة الذاتية رداً على الكونفرانس، إنما ينم عن قصور في الرؤية الوطنية لديها، ويعكس بشكل مباشر إملاءات دولة الاحتلال التركي عليها. زيارة وزير الخارجية التركية “حقان فيدان” إلى دمشق قبل انعقاد الكونفرانس بيوم واحد، كشفت حجم المخاوف التركية من فقدانها لنفوذها وذراعها في سوريا، وهي في ذات الوقت انعكاس مباشر للصراعات الداخلية في تركيا بين جناحي رئيس الاستخبارات التركية “إبراهيم كالن” و”حقان فيدان”، لجهة تأثير ملف الحوار بين دمشق والإدارة الذاتية على مستقبلهما السياسي في البلاد على ضوء تطورات حل القضية الكردية في تركيا، حيث يتمسك “كالن” بالحل الذي طرحه القائد “أوجلان”، فيما يرى “فيدان” في ذاك الحل تهديداً مباشراً لطموحه في تسلم رئاسة تركيا بعد أردوغان، وينقل هذا الصراع بكل تفاصيله إلى الجغرافيا السورية، من خلال عرقلة أي توافق بين دمشق والإدارة الذاتية، وبالتالي يعمل على تغيير موقف الحكومة السورية المؤقتة، وحملها على رفض مقررات الكونفرانس، ووقف الحوار مع الإدارة الذاتية، أي أن ما صدر من الحكومة السورية المؤقتة خاضع بشكل مباشر للمصالح والأجندات التركية، أكثر مما هو موقف جدي ومعارض حيال الكونفرانس، وهذا بحد ذاته يكشف ضعف الحكومة السورية، وفقدانها القدرة على بناء تصور ورؤية وطنية شاملة.

بالتأكيد سوريا ما بعد كونفرانس الحسكة لن تكون كما قبله، لجهة رسم التحالفات والاصطفافات بين القوى الوطنية والديمقراطية، والتي تنبذ كل أشكال العنف والإرهاب والقتل على الهوية والانتماء الطائفي. والكونفرانس كشف في ذات الوقت عجز الحكومة الحالية عن إنجاز أي مشروع وطني جامع قادر على جمع كل الفرقاء السوريين حول طاولة حوار واحدة، والدعوة إلى عقد مؤتمر وطني شامل، لا يقصي أحداً، ومن ثم الانتقال لوضع دستور وطني وديمقراطي حضاري لسوريا، بموجب عقد اجتماعي جديد، يعيد تركيب وبناء الوطنية السورية وفق أسس الانتماء الوطني لا الطائفي والمذهبي، والحكومة الراهنة أثبتت فشلها في تجميع صفوف السوريين، بل تعمل على تكريس الطائفية بشكل فاقع، ولا أدل على ذلك إلا المجازر التي ارتكبتها قواتها في الساحل، وتفجير الكنيسة، والهجوم على السويداء، إضافة إلى استمرار حالات القتل والاختطاف المجهولة اليومية، والتي تقف وراءها قواتها الأمنية المتمرسة في هذه الأعمال.

حالة الفلتان الأمني والفوضى السياسية والاقتصادية، دفعت مكونات الشعب السوري لعقد كونفرانس الحسكة، لوضع حد لممارسات السلطة، والانتقال بالبلاد إلى مرحلة التفاعل والمشاركة في صنع قراراتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والأمنية وفق متطلبات أمن واستقرار البلاد، دون تمييز بين أي منطقة وأخرى.

إن كان أقطاب السلطة يرون في دعوة شيخ الموحدين الدروز “حكمت الهجري” وشيخ الطائفة العلوية “غزال غزال” وإلقائهم كلمات مصورة في الكونفرانس، إهانة لهم، وأنها دعوة لتقسيم سوريا، فإنهم في المقابل يتجاهلون بمعرفة، ويحاولون التذاكي على المجتمع الدولي، والادعاء بأن من أودى بسوريا إلى هذا الدرك الخطير هم من تطلق عليه اسم “رؤوس الفتنة”، رغم أن قراراتها وتصرفاتها الرعناء ما يزال يفتت المجتمع والجغرافيا السورية إلى قطع متناثرة هنا وهناك. والقناعة السائدة لدى معظم السوريين أنهم لن يرضخوا لسياسة الأمر الواقع، بل سيبحثون عن بدائل وطنية وديمقراطية لمستقبلهم ومستقبل بلادهم، وهو ما تجلى بشكل واضح في الكونفرانس، حيث عكس تنوع المجتمع السوري، ووحدة الرؤية بينهم.

ما أثار امتعاض الحكومة السورية، هي أنها تتخوف من كل خطوة وطنية وديمقراطية في البلاد، فأي دفع باتجاه بناء سوريا تعددية ولا مركزية وحتى فيدرالية يقوض مشروعها القرووسطي المدعوم من بعض القوى الإقليمية والدولية، وقد ينهي سطوتها واستفرادها بكل القرارات، رغم أن السوريين في بداية انهيار النظام البائد، وتسليم السلطة لهذه الفئة أعلنوا دعمهم المطلق لها في بناء سوريا موحدة وديمقراطية. إلا أن المثل القائل “فاقد الشيء لا يعطيه”، وهو ما يسري على الحكومة السورية الراهنة، فهي لا تستطيع خلع لباسها القديم، والتخلي عن أفكارها المتطرفة، وقبول بالآخر المختلف معها في الرؤية والتصور، بل تحاول إعادة بناء سوريا وفق إيديولوجيتها وعقيدتها الدينية المتزمتة.

الترحيب الدولي بمقررات الكونفرانس، هو الآخر يساهم في ترسيخ المشروع الذي تبناه المشاركون فيه. ففيما كانت أنقرة ودمشق والدوحة تعمل على إلغاء اجتماع باريس وانسحاب وفد الحكومة السورية المؤقتة منه، فإنها عملت باتجاه نزع سلاح قوات سوريا الديمقراطية، عبر ممارسة الضغوط السياسية والدبلوماسية عليها، والتلويح بشن عملية عسكرية ضدها، إلا أن الكونفرانس نزع تلك الشرعية التي طالما تتستر خلفها دمشق الراهنة، ووضع حدوداً لممارساتها وانتهاكاتها، ولم تعد مطلقة اليدين لتفعل ما تشاء على الجغرافيا السورية، بل وضعها تحت المجهر الإقليمي والدولي، وما طرحُ انتهاكاتها في مناقشات مجلس الأمن الدولي إلى بداية الغيث، وقد تتطور هذه القضية بكل أبعادها السياسية والاقتصادية، لتدخل مجلس الأمن هذه المرة تحت البند السابع، ما قد ينطوي على وضعها تحت الرقابة الدولية، وفتح باب المحاسبة على انتهاكاتها، وبالتالي ينزع منها تلك “الشرعية المزيفة”، ويضعها في قفص الاتهام.

قد تأتي الحلقة الثانية لتضييق الخناق حول حكومة دمشق، في انعقاد مؤتمر “بروكسل” بعد عدة أيام، حسبما تتحدث عنه اللجنة التحضيرية للمؤتمر، ومن ثم الانتقال لعقد مؤتمر وطني شامل في الحسكة أو قامشلو؛ يطرح محددات واضحة، ويضع دمشق أمام سياسة الأمر الواقع، وحينها تفقد معها خياراتها في رفض الدعوات الوطنية بإشراك كل ألوان الطيف السوري في بناء بلادهم وصنع قراراته.

كان الأجدى بحكومة دمشق أن تنفّذ ما يترتب عليها من التزامات وفق بنود اتفاقية 10 مارس/ آذار، ولا تنزلق إلى مواقع حماية المصالح الأطراف الخارجية، وألا تتجاهل مصالح وتطلعات الشعب السوري، وتحافظ على توازنها، وتمثل السوريين بمختلف انتماءاتهم الدينية والإثنية. ومهما كانت تتلقى الدعم والمساندة السياسية والاقتصادية من بعض القوى الإقليمية والدولية، فإن مشروعها محكوم بالفشل، ولا يمكن اعتبار سوريا أفغانستان ثانية بأي حال من الأحوال. عليها أن تعيد قراءة نفسها وتصرفاتها بعقلانية، وتعود للشعب السوري، هذا إن كانت فعلاً تريد الحفاظ على ديمومتها، لا أن توزع تهم التخوين والانفصال يميناً وشمالاً.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى