مانشيتمقالات رأي

تركيا واستحقاقات حل القضية الكردية

محمود علي

عادت الدولة التركية لتردد لغة التهديد والوعيد ضد روجآفا ومناطق شمال وشرق سوريا، بعدما فشلت رهاناتها في تحقيق نصر ما في السويداء، ضمن صراعها السري – المكشوف مع إسرائيل على النفوذ في سوريا. وخيبة أملها من أنصارها، دفعتها لتُصَعِّدَ من احتمالات تدخلاتها العسكرية، كحل لها إثر كل نكسة في الساحة السورية.

سياسة “فصل المسارات” التي اتبعتها تركيا قبل أكثر من عام، لم تثمر عن أي نتيجة، فهي حاولت إعادة تقسيم كردستان على مستوى تدخلاتها السافرة وغير القانونية. فبعد فتح قنوات التواصل مع القائد الكردي “عبد الله أوجلان”، والترويج لحل القضية الكردية، سعت تركيا، خصوصاً زعيم حزب الحركة القومية “دولت بهجلي” إلى الترويج لمقولة تلقفتها وسائل الإعلام التركي “نعم لأوجلان، ونعم لحزب DEM، ولا لقنديل، ولا لقسد ومظلوم عبدي، ولا لصلاح الدين دميرتاش”. واتبعت تركيا هذه المقولة سياسة ثابتة في تعاملها مع القضية التركية. إلا أنها هي الأخرى لم يعد لها معنى بعد الزخم الكبير الذي حققته الحركة الكردية في روجآفا وباكور كردستان، لتضطر تحت ضغط التطورات المتلاحقة إلى التعامل بنوعية من الواقعية السياسية مع كل جزء من كردستان، وتعيد رسم سياسات جديدة، تحقق لها ديمومة مصالحها الاحتلالية.

المشروع الذي طرحه القائد “أوجلان” في حل “السلام والمجتمع الديمقراطي”، والخطوات التالية التي اتخذها حزب العمال الكردستاني في حل نفسه، ونزع سلاحه، ولو بشكل رمزي، لم يقابله أي تحرك فعلي وواضح من قبل الدولة التركية ونخبها الفكرية والسياسية، بل ظلت تَدَّعي أنها انتصرت في حربها مع “العمال الكردستاني” وبالتالي مع الشعب الكردي، من خلال الترويج لمقولة “تركيا بلا إرهاب”، لتعكس نواياها في عدم حل القضية الكردية، وتحصرها بقضية “إرهاب”، دون الإقدام على إجراء تغييرات جوهرية تمس جوهر القضية، أو تساعد في زرع الثقة بين الطرفين. فما تزال الذهنية القوموية المتعصبة المتمسكة بقومية الدولة التركية، تسيطر على أذهان الساسة الأتراك، وكأنهم يحاولون إرجاع عقارب الساعة للوراء، ورفض قبول الكم الهائل من التطورات الجيوسياسية في المنطقة والعالم، بل يرغبون بإخضاع التطورات لمنطق الدولة القوموية التركية، وليس العكس.

بهذه الرؤية الضيقة والمتكورة حول ذاتها القوموية، تسعى تركيا إلى إخراج حل للقضية الكردية، يتناسب مع تطلعاتها الاحتلالية، وصهرها مرة ثانية في بوتقة دولتها، دون التنازل عما تعتبرها ثوابت في “البناء الفكري والقانوني” لدولتها.

الرد القوي والحاسم على تَخَرُّصات الدولة التركية، والذي وضع النقاط على الحروف، جاء من الرئيس المشترك لمنظومة المجتمع الكردستاني “جميل بايك”، فَنَّدَ فيها جميع مزاعم الدولة التركية في أنها تعمل على حل القضية الكردية، وكشف “بايك” أنها حتى الآن تتهرب من استحقاقات الحل، ولا تسمي القضية الكردية باسمها الحقيقي، بل تسعى إلى تدوير الزوايا، وإبداء مقاربات مواربة لا تنم عن نوايا الحل. وبأنها لم ترد على خطوات القائد “أوجلان” بما يماثلها.

“بايك” فكك خطاب الرئيس التركي أردوغان، الذي روّجت له وسائل إعلامه ودائرته المقربة منه، حتى قبل أن يلقيه. إشارة “بايك” إلى أن أردوغان لم يأتِ على ذكر القضية الكردية مطلقاً، تثير الكثير من الشكوك حول نواياه في المضي نحو حل حقيقي ومستدام للقضية الكردية، حيث سعى إلى إضفاء صفة “شعبوية” على الكرد، عبر الجمع بينهم وبين العرب والأتراك ضمن ما أسماه “الحل التركي لقضايا المنطقة”، معتبراً نفسه وبلاده “مفتاح الحل”. أردوغان أراد من خلاله التأكيد على مشاريع دولته في الهيمنة وتوسيع نفوذها في المنطقة، عبر إظهار نوع من التهدئة وإرضاء بعض الأطراف، وليس الدخول في حل جذري، وخاصة للقضية الكرية، والاعتراف بها ضمن الدستور، والشروع بخطوات عملية، مثل الإفراج عن المعتقلين، وعلى رأسهم القائد “أوجلان”، والسماح بفتح مدارس تعلّم باللغة الكردية، وسن قوانين جديدة، تفتح المجال أمام الكرد لممارسة السياسة، وإنشاء أحزابهم، وتعديل وضع البلديات، أي فتح المجال أمام ممارسة الحريات ورفع القيود عنها.

إلا أن أياً من تلك التعهدات لم تفِ بها الدولة التركية، وهو ما دفع “بايك” لوضع الخطوط الحمراء أمامها، عبر القول “نحن نفذنا كل تعهداتنا وفق نداء القائد أوجلان، وإلى هنا وانتهينا”، ومؤكداً أن “كل ما يروج له أن عمليات إحراق الأسلحة مستمرة، غير صحيح”، ليقطع الشك باليقين ويقول “لن نحرق أياً من أسلحتنا، إن لم تقدم الدولة التركية على رفع العزلة عن القائد أوجلان بشكل كامل، وليس تخفيفها، وكذلك الاعتراف بحل القضية الكردية ضمن برنامجها”. “بايك” وضع حداً للتكهنات التي تدور في الأوساط التركية والكردية أن “العمال الكردستاني” مستمر في نزع أسلحته، دون مقابل. كما أن حديثه يعزز من موقف القائد “أوجلان” في فرض شروطه وإملاءاته على الدولة التركية التي ما تزال تتهرَّب من استحقاقات حل القضية الكردية والسير نحو دمقرطة تركيا.

إن المشروع الذي حدده أردوغان بحل القضية من خلال حزبه، العدالة والتنمية، وحزب الحركة القومية، وحزب المساواة وديمقراطية الشعوب DEM، سيبقى منقوصاً إن لم يكن ضمن إطار أشمل، ليكون أقرب إلى عقد الصفقات منه إلى حل حقيقي يظهر جدية الدولة في تفكيك العقد التي تراكمت عبر عشرات السنين، ولا يكفي أن يعترف أردوغان بالجرائم – التي سماها بالأخطاء – التي ارتكبتها الحكومات السابقة ضد الشعب الكردي، رغم أنه لم يدين نفسه أو ينتقد سلوكه في التعامل مع الكرد، فالحل الشامل يقتضي إشراك جميع الفعاليات المجتمعية في وضع تصوراتها للحل، أي أن يبدأ الحل من القاعدة وليس من رأس الهرم، كما طرحه القائد “أوجلان” في براديغما “السلام والمجتمع الديمقراطي”.

اللجنة المنبثقة من البرلمان التركي، والتي ضمت نحو /53/ عضواً، هي خطوة أولية في طريق الحل، ولكنها جاءت بشكل معكوس لما هو متعارف عليه في القوانين والدساتير المعهودة، فكان من المفترض أن تُسَنُّ القوانين ويجري تعديل الدستور، ومن ثم تُشكَّل اللجنة، فالدستور يُنتج اللجنة، وليس العكس. ويبدو أن أردوغان ينوي من خلال اللجنة إلى تعديل الدستور ليسمح له بإعادة ترشيح نفسه وانتخابه لولاية جديدة، وليس حل القضية الكردية.

أسلوب المراوغة والتسويف الذي يلجأ إليه أردوغان لن ينتج حلاً للقضية الكردية، وإدارة بوصلته مرة أخرى تجاه روجآفا وشمال وشرق سوريا، بعدما أحرق عرّابه سفير الولايات المتحدة والمبعوث الأمريكي لسوريا “توماس باراك” كل أوراق قوته، في تمرير صفقات مشبوهة مع الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، في حملهما على توقيع “اتفاقية”، أقرب ما تكون إلى “صك استسلام” منه إلى حل للأزمة السورية أو تنفيذاً لبنود اتفاق 10 مارس/ آذار، وهو ما دفع أردوغان ليفتح دفاتره القديمة ويعود إلى لغة التهديد والوعيد التي أكل الزمن عليها وشرب، ويدفع الشرذمة المرتبطة بتركيا في سوريا، إلى تصعيد حملاتها الإعلامية ضد مناطق الإدارة الذاتية، منذرة بتكرار سيناريو السويداء. إلا أن الإدارة وقوات سوريا الديمقراطية لم تنجرّ وراء هذه الفقاعات الإعلامية، ونقلت المفاوضات والحوار مع الحكومة السورية المؤقتة من موقع ومرحلة، إلى مواقع أكثر تقدماً، أشركت فيها عدداً من القوى الإقليمية والدولية، ولتقطع الطريق على تركيا وكل من يحاول تعكير المفاوضات، وجر سوريا إلى حرب أهلية لا يخرج أحد منها رابحاً، خاصة بعد تجربتي الساحل والسويداء، وشددت على ضرورة الركون إلى “عقلنة” الحوار والمفاوضات، وبما تفضي إلى حلول واقعية، وليس الاختباء وراء قوى إقليمية تسعى لتمرير مصالحها على حساب الشعب السوري.

مثلما نجحت الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية في رد كل أشكال العدوان على مناطقها، فإن لديها الإمكانية والقدرة السياسية والدبلوماسية على تغيير وجهة سوريا، والدفع بها نحو حل وطني يلبّي تطلّعات كل السوريين على مختلف انتماءاتهم الدينية والسياسية والعرقية، ودمشق ستضطر في النهاية لتعديل سلوكها، والقبول بالحلول الوطنية والديمقراطية، والتوافق مع الإدارة الذاتية في تجنيب سوريا مزيداً من الويلات والمصائب، وإلا فإن ما يُعدُّ لها في الدوائر الغربية لا يسرّها، خاصة بعد تمديد عقوبات “قيصر” وإضافة خمسة بنود أخرى عليها، وصدور تقارير حقوقية دولية، وثّقت كل الانتهاكات في الساحل والسويداء. فإن كانت أحداث الساحل دفعت دمشق للتوقيع على اتفاقية 10 مارس/ آذار، فهل ستدفع أحداث السويداء إلى تطبيق بنودها، وبما يعيد رسم المشهد السوري من جديد؟ الأيام القليلة القادمة حافلة بالمفاجآت، لكن بالتأكيد تحمل معها بشائر الحل أيضاً.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى