مانشيتمقالات رأي

مأساة السويداء .. نتائج كارثية لمقدمات خاطئة

كمال حسين

وفيما يعيش الوطن السوري مخاضه التاريخي الصعب على وقع مجازر السويداء، وجمر النيران المتطاير جراءها إلى كل أصقاع الجغرافيا السورية، هذه المجازر التي قد سبقتها أو مهدت لها مجازر الساحل في آذار الماضي، والتي طالت عشرات ألوف العلويين الأبرياء، قتلاً وحرقاً وسبياً وتهجيراً. وبعد أن انطلقت دعوات النفير العام إلى السوريين تحضهم للجهاد، لكن ليس باتجاه القدس أو الجولان، بل نحو الساحل مرة وتالياً إلى السويداء.

إلى السويداء القصد، وإليها لتأديبها وقص شوارب رموزها. ما زالت تنفر حكومة الشرع وينفر معها من خلفها في قوى الأخونة والتطرف والإرهاب، ومراكز الدعم في أنقرة وقطر، ولا ريب أن الدرس المحمول في كل ذلك من أردوغان ودوائر الاستخبارات التركية إلى شعب السويداء كان درساً صارماً فيت تجنب الخيانة والتزام جانب الوطنية السورية عبر الدعس على صور سلطان باشا الأطرش.

وبعد نغمة الفلول في الساحل، وقصة الفصائل المنفلتة، وبعد مسرحية لجان التحقيق للتحايل الغبي على منظمات حقوق الانسان، ومتابعات المجتمع الدولي، اللجان التي لم تسفر عنها شيئا حتى الآن؛ جاءت هنا نغمة العمالة لإسرائيل، وجاء معها ديباجة البدو المدججين بكل صنوف الأسلحة، وألمعيتهم في اكتشاف دروب الوطنية السورية، ثم مؤهلاتهم في تأديب من تسول له نفسه في الانحراف عن طريق الصواب، وهكذا تستمر المأساة السورية وتتوزع فصولها.

وهكذا تمارس السلطات القائمة ازدواجية المقاييس في التعامل مع المواطنين السوريين، ليس فقط عبر التمييز الصارخ بين المكونات في تسلم وإسناد المناصب؛ بل في تقسيمهم إلى صنفين، صنف سلم سلاحه طوعاً عند سقوط النظام السابق ظناً منه أن هناك دولة سوف تعنى بأمنه، ومع ذلك لم تتوقف تجاهه حملات المداهمة اليومية، وصنف آخر لا يتمتع بأي صفة رسمية بالأمن أو الجيش، لكنه مفوض بحمل كل صنوف الأسلحة بما فيها المتوسطة والثقيلة. والبدو، وما يسمى بقوات العشائر خير مثال على ثنائية المقاييس هذه. وأن ما يجدر ذكره في هذه النقطة؛ إن في حقبة بشار الأسد على مساوئها لم تكن لتتساهل مع فوضى انتشار السلاح، كما لم تكن لتتغاضى عمن يحمل سكين فواكه، كما لم تشهد تمييزاً بين من يحق لهم ممارسة هذا الحق.

وبالعطف على كل ما سلف، ووفقاً لما حملته تطورات الأشهر القليلة الماضية، لا مناص من تأكيد حقيقة ثابتة مفادها إن مهام الدولة الوطنية معطلة بالكامل، وهي موظفة من خلال حكومة الشرع التي فوضت نفسها بحق التفرد في حكم البلاد، للعمل لصالح جهة متحكمة واحدة،، أو متماهية مع مفهوم دولة الإمارة الإسلامية التي لا تعترف بقيم الدولة الحديثة، ولا تقر بحدودها التي يتساوى فيها التركستاني والشيشاني مع الايغوري والعربي السوري، لا تعير بالاً للتصنيفات الدولية، كما لا تقيم وزناً لمصطلح  قوائم الإرهاب، دولة أو إمارة لا مكان فيها إلا لصنفين بالنهاية؛ دواعش مؤمنين مجاهدين، أو كفار يحل دمهم، أو تصلح دمائهم أن تكون ممراً لامتلاك حصة وافية من حوريات وأوهام زمن غابر.

دولة الشرع وحكومته التي أفضت إلى كل هذا الخراب، وعمقت هذا الصدع في حياة المجتمع السوري خلال أشهر وجيزة، ما هي في الحقيقة غير نتائج كارثية لمقدمات خاطئة. نعم لا بد من الإقرار بأن الثقافة السائدة حول مفهوم الدولة المركزية، وحول مفهوم الأمة والهوية الوطنية، ودين الدولة قد خلق تشويشاً وانحرافاً بالغ الخطورة في أذهان الكثيرين، وحتى بين نخب مثقفين عرب مسلمين عديدين، حيث يُسَوَّقُ منذ فترة لفكرة خاطئة لا صلة لها بالوطنية السورية منطلقها؛ إن الغالبية الساحقة من الشعب السوري تتكون من العرب السنة، وبأن المكونات العرقية والدينية الأخرى، سواءً الكرد منهم أو العلويين أو الدروز والمسيحيين أقليات عددية هامشية، وبأنه من الحتمي أن يفوز أي مرشح عربي سني في أي انتخابات حرة، ولا فرصة لنجاح أي منافس من المكونات الأخرى في ظل التفوق القائم، وعلى ضوئه فالشرع بنظر هؤلاء هو رئيس شرعي لأنه خيار الأكثرية، لأن استطلاعات التأييد في الشارع تشي بهذا التفوق.

وبالانطلاق من هذه المغالطة الكبرى والسطحية للغاية في فهم الواقع السوري، وفي فهم مقومات الدولة الوطنية؛ فقد تولدت الحجج والمقدمات المؤدية لانحرافات وقناعات مرضية عديدة، دفعت إلى ممارسات وجرائم؛ كان من بينها مجازر الساحل، واليوم غزوة السويداء، وقبلها جرائم عفرين، والحبل على الجرار.

وبالاعتماد على هذا المنطق الأصم، فقد سوى اتباع حكومة الشرع لأنفسهم الحق بتشكيل حكومة على شكلهم، واعتماد إعلان دستوري يعطيهم ويعطي رئيسهم سلطات مطلقة، ويخولهم بناء جيش على طريقتهم، لا مانع أن يتكون من أجانب ملاحقين، وإعطاء الجنسية لمن يشاؤون.

كما صار من حقهم أن يبقوا العدالة الانتقالية التي يرونها، وأيضاً صار لزاماً على أهل السويداء وغيرهم الالتزام بأوامر السلطات المركزية، وتسليم نسائهم، والتغاضي عن إهانة شيوخهم بزعم متطلبات الشرعية المزعومة.

وبالخلاصة، حين تصبح السلطة، سلطة أمرٍ واقع يفرضها منطق القوة، وقرارها مصدره مبدأ من يحرر يقرر، دستورها وقضاؤها جاء عن دار الفتوى، ولا مكان في أحكامه لرأي أحد من مكونات الشعب السوري؛ فلا ريب أنه يعرف جميع البشر عقد إذعان وليس دستوراً لأحد، كما تصبح جميع المكونات بموجبه بموقع المدان والمطلوب عند الطلب بأي حجة لمخالفته لأحكام الشريعة، أو عند ممارسته لأي من حقوقه الاجتماعية والإنسانية أو الثقافية؛ كأن يُضْبَطَ ماشياً مع زوجته وهي بوضع سفور، أو لاحتسائه الكحول، أو لتقدير جهة ما أنه غير محتشم بشكل كاف في لباسه أو حديثه، أو في ممارسة طقوسه.

إلى ذلك، يمكن الجزم بأن واقع الأقليات الدينية والعرقية في ظل الحكومة القائمة؛ واقعٌ صعبٌ للغاية، وتعيش في المجمل تحت مطرقة الاتهام بالخيانة، أو السعي للانفصال، وسندان التكفير والتهديد بالقتل، أو الاختطاف والسبي، وخطر تعرض من تقع بين أيديهم للخدمة في مهزلة جهاد النكاح، كما لجميع أشكال الاستباحة.

يفيد ذلك بأن الصورة المأساوية في السويداء، وفي عموم سوريا اليوم، هي النتيجة لعملية الخراب الوطني الممنهج، وليست المقدمة، بل المقدمة كانت في مكان وزمان آخر، المقدمة كتبت يوم تراجع وعي السوريين عن قيم سلطان “باشا الأطرش” الدرزي، و”إبراهيم هنانو” الكردي، والشيخ “صالح العلي” العلوي .و”فارس بيك” الخوري المسيحي وغيرهم، هذه الرموز الوطنية التي تخلت عن إمتيازات دولة الطوائف لمصلحة الدولة الوطنية الجامعة، التي قامت على قاعدة الدين لله والوطن للجميع. ليحل محله وعي مشوه واستقطاب طائفي مقيت، كان الإسلام السياسي، وحركة الإخوان المسلمين الضالع الأول فيه. إن شعار الإسلام هو الحل، قد أودى بالنهاية بمقومات العملية الوطنية، وأدخل حياة الأقليات الدينية والعرقية، ومعهم العرب السنة المعتدلين المؤمنين بوحدة النسيج الوطني، والحاملين لإرث “شكري القوتلي” ونسقه الوطني؛ أدخل حياتهم، وهم الذين يشكلون في الواقع الأغلبية الساحقة من السكان في قلق دائم من موجة نفير جديد، وهذا بدوره قد حول صورة إسرائيل من عدو إلى صديق لا يتوفر غيره لحماية أرواح الأبرياء، صديق ضامن لحياة الأبرياء، لا يرفض دوره غير كل مزاود أو منفصل عن الواقع.

نعم أن مقدمة هذا الخراب الوطني الكبير قد رسمت في الوجدان الجمعي، يوم نجحت قوى الإسلام السياسي  في استبدال صورة “عبد الناصر” للأسف الشديد بصورة أقزام ورموز على شاكلة أبو عمشة وأبو براء، وأبو دجانة، وما شاكل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى