مانشيتمقالات رأي

التحول التاريخي لحركة حرية كردستان

محمود علي

كشف حزب العمال الكردستاني عن قرارات مؤتمره الثاني عشر والأخير، وأحدث معها زلزالاً سياسياً وعسكرياً في الأوساط السياسية والشعبية الكردية والتركية والإقليمية والدولية.

الحزب المبني على إيديولوجية ونظرية ثورية تحررية، خاض كفاحاً سياسياً وعسكرياً مريراً طيلة أكثر من 47 عاماً، راكم خلالها قيماً وطنية كردية وثورية، وخلق معها ثقافة مميزة، بات جميع الكرد، وحتى من هم خارج كردستان، يعرفون أبجديات تلك اللغة التي تجاوزت في أبعادها أحياناً كثيرة، القومية والتعصب القوموي وإطار الدولة ومفاهيمها ومؤسساتها، وانطلقت نحو فضاءات إنسانية أرحب، هيأت لولادة أجيال تحمل أفكار وإيديولوجية تحررية من نوع آخر، ربما لم تكرر في نماذج ثورات تحررية أخرى في العالم. فدائماً كان – وما يزال – كادر الكردستاني نقطة استقطاب وجذب لمحيطه. تجده متسلحاً بفلسفة ثورية، متمسكاً بقيم الثورة في التنظيم والإدارة ونكران الذات، يناضل إيماناً بفكر وإيديولوجية الحزب وقائده، ومستعد في كل لحظة للتضحية بنفسه خدمة لشعبه وفكره، وهذا ما خلق حوله هالة من القدسية والتبجيل لنضاله، وجعله موضع أمل لكل كردي وأينما كان، حتى تحول أحياناً كثيرة إلى نوع من الأسطورة.

لا نقول هذا من باب النوستالجيا والحنين إلى الماضي، بل هي عملية سرد لحقائق عايشها الكرد في جميع أجزاء كردستان. لا يمكن بأي حال من الأحوال تحوير وتزييف الحقائق التاريخية في هذا العصر المنكشف على كل شيء، فحقيقة العمال الكردستاني غدت جزءاً من الذاكرة الجمعية الكردية، من خلال لغة الخطاب، وأسلوب العيش، والمقاربات الجريئة والعميقة من شتى المواضيع الفكرية والإيديولوجية والوطنية الكردية، وحتى العالمية.

فإن كان الحزب بقوته الإيديولوجية والفكرية، وكفاحه العسكري قد أحدث ثورة في المجتمع الكردي، ونقله من حالة التخلف إلى مواكبة تطورات العصر، بل وضعه في مكانه الصحيح، وأضاف في مسيرته النضالية قيماً حضارية وإنسانية للحضارة البشرية.

فمساهمات المفكر عبد الله أوجلان الفكرية والفلسفية، وقدرته على صياغة مشروع نهضوي وتحرري للشعب الكردي ولشعوب المنطقة، تعد إنجازاً تاريخياً وحضارياً ربما يكون الوحيد أيضاً.

قرار حل الحزب نفسه، وترك الكفاح المسلح، يجب ألا تتم قراءته بتجرد وبمعزل عن التسونامي في المنطقة والعالم، كما من الخطأ أن يُقرأ وفق ثنائية “المنتصر – المهزوم”، ذاك المفهوم الذي طالما ظل عالقاً في أذهاننا نحن أبناء الشرق الأوسط. فالشرقي يقيس كل شيء وفق مفاهيم وإيديولوجية الدولة القومية التي أغلق على نفسه فيها. كما أن اعتبار أن كل شيء قد انتهى بمجرد أن الحزب حل نفسه ومقارنتها بما حل لثورة باشور/ جنوب كردستان بعد اتفاق 06 مارس/ آذار عام 1975، أيضاً يعد مغالطة كبيرة، وسوء فهم وتقدير لمسيرة الحزب النضالية وللانتصارات التي حققها، وتجاهل لظروف وشروط كل ثورة.

بداية يجب القول إن التغيرات الدراماتيكية الحاصلة في المنطقة بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول عام 2023، وضع منطقة الشرق الأوسط على فوهة بركان ثائر، ولم تقتصر ساحة تأثيراتها على فلسطين وإسرائيل ولبنان وسوريا فقط، بل وصلت ارتداداتها إلى كامل المنطقة، بما فيها كردستان وتركيا. النهاية المأساوية لحركة “حماس” وكذلك “حزب الله” وسقوط النظام السوري البائد، فرض وقائع سياسية وعسكرية جديدة في المنطقة، وغدت معها على أعتاب تحولات جيوسياسية عميقة لا تستثني أحداً، وهي ما استطاع المفكر أوجلان قراءتها بدقة متناهية، واستخلاص نتائج جوهرية منها، وصياغة مشروع “إنقاذي” لحركة التحرر الوطنية الكردستانية التي يقودها حزبه المتمثل بمشروع مبادرته التاريخية “السلام والمجتمع الديمقراطي”.

مبادرة الحزب بحل نفسه وتغيير هيكليته التنظيمية، ليس نتاج هزيمته السياسية والعسكرية، على العكس من ذلك، لم يكن الحزب قوياً بأي فترة من الفترات منذ تأسيسه مثلما هو الآن، فقد استطاع أن يحقق انتشاراً عمودياً وأفقياً ونوعياً في كل الساحات والمناطق، هذا من ناحية، من ناحية أخرى، التحول والتغيير من موقع القوة يجعل المرء قادراً على فرض شروطه على الخصم، وإضفاء الشرعية عليها. غير أن السرعة في عملية عقد المؤتمر، والذهاب إلى حل الحزب، ووضع نهاية للكفاح المسلح، توحي أن تفاهمات عميقة وسرية قد أنجزت بين الحركة والدولة التركية، وتحت إشراف القائد أوجلان، وبضمانة دولية، حتى قبل عقد المؤتمر، ولا يمكن تقديم تفسير آخر غيره لعملية التغير المفاجئة التي أعلن عنها الحزب خلال فترة قصيرة جداً.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا؛ إن كان اسم الحزب أصبح جزءاً من الماضي، هل يعني هذا زواله نهائياً، أم أنه سيعمد إلى اتخاذ شكل تنظيمي جديد يتماشى ويتوافق مع المرحلة الراهنة؟ رغم أن لا أحد يستطيع التكهن بشكل وهيكليته الجديدة، لكن المؤكد أن كل التغيرات اللاحقة ستتم تحت إشراف مباشر من القائد أوجلان وبمعرفته الخاصة، بعد أن يتم إطلاق سراحه، أو توفر له ظروف العمل السياسي والتواصل بشكل دائم مع قيادة الحزب في الخارج، وهو ما شدد عليه الحزب في مؤتمره. ليتمكن من الانخراط في العمل السياسي بعد تهيئة الأجواء في كردستان وتركيا. ويترتب على الحزب أن يعيد تشكيل نفسه بصيغة أخرى تلائم مرحلة العمل للوصول إلى السلام والمجتمع الديمقراطي وفق البراديغما التي قدمها أوجلان. وطرح تصورات ومقاربات مسبقة من قبل البعض بأن أعضاء وقيادة الحزب سيتخلون عن النضال السياسي، إنما تنم عن رؤية ضحلة وسطحية بإيديولوجية وشكل تنظيم حزب العمال الكردستاني. وينبغي النظر إليه بأنه سيطرح نفسه في الساحة السياسية بشكل أقوى، مستنداً إلى ميراثه النضالي والكفاحي الطويل، وبدعم من شعبه في جميع الأجزاء، وكذلك قوة الأفكار والتصورات المسبقة التي يقدمها القائد أوجلان، وهو ما يُعَوِّلُ عليه الكل في إحداث تغيير في الذهنية الإنكارية التركية تجاه الشعب الكردي وحقوقه المشروعة. إن حل العمال الكردستاني، والانتقال إلى شكل آخر وباسم آخر، هو بمثابة نقل البندقية من كتف إلى آخر، وهذا ما يثير مخاوف الدولة التركية بكل أركانها السياسية ونخبها الفكرية والثقافية، بأن الحزب والقائد أوجلان لديهما الإمكانية على توظيف قدراتهما الفكرية والسياسية في إحداث اختراقات هامة في البنية الرسمية الحجرية التركية (حكومة وشعباً)، وبالتالي القبول بالشعب الكردي شريكاً في إدارة الدولة، بعد أن تضمن حقوقه دستورياً وقانونياً.

كما أن لغطاً واسعاً يدور حول مسألة إلقاء السلاح من عدمه، ويجري الخلط بين مفهوم “نهاية الكفاح المسلح” و”إلقاء السلاح”، والبعض يسعى بوعي وإدراك إلى نشر مفاهيم مشوهة حوله.

أولاً لم يرد في مانيفستو/ بيان القائد أوجلان بتاريخ 27 فبراير/ شباط أي إشارة إلى إلقاء السلاح، بل أكد على نهاية الكفاح المسلح، وهو لا يعني بالضرورة إلقاء السلاح. واشترط الشروع بالتغييرات من جانبه ومن طرف الحزب، مقابل شروع الدولة التركية بإجراءات قانونية ودستورية تحت قبة البرلمان التركي، على أن يشارك الكرد فيها من خلال حزب (DEM)، وإلا فإن العملية برمتها لن تتكلل بالنجاح، ولن ترى النور.

الاعتقاد الراسخ لدى الجميع بأن الحزب سيحتفظ بقوته العسكرية ولن يفرط بها، فهي الضمانة لإقدام الدولة التركية على تنفيذ تعهداتها. فلقد عودتنا الدولة التركية أنها تنقلب على كل تفاهماتها وعهودها مع الكرد، مثلما حصل في عام 1993، وكذلك في عام 2003 و2013، وهو ما خبرها القائد أوجلان والحزب أيضاً قبل غيرهم. وإن قُدِّرَ للحزب أن يسلم سلاحه، فلن يكون دون ضمانات دولية، وهو غير متوفر في المدى المنظور، وإن حصلت أي عملية من هذا القبيل، فإنها على الأرجح ستأخذ وقتاً طويلاً، ولا يمكن مقارنتها بعملية حل الحزب مطلقاً.

إن نجاح عملية السلام من عدمها، مرهون بالدرجة الأولى بنوايا الدولية التركية، وتغييرها لخطابها العدائي تجاه الكرد وحركته التحررية، ولمسنا ذلك من خلال خطاب أردوغان وباهجلي، نوعاً ما، ولكن هذا غير كافٍ لزرع الثقة لدى الكرد والحركة والقائد أوجلان، بل تتطلب مواقف أكثر جرأة، والاعتراف بالواقع الراهن، والابتعاد عن حالات التماهي مع اللغة الدبلوماسية المتوارية حول نوايا مبيّتة، كما يتطلب إعداد المجتمع التركي بذات السوية التي يعمل عليها القائد أوجلان والحركة ضمن صفوف المجتمع الكردي. بالتأكيد لن يتحقق السلام خلال ليلة وضحاها، والعملية ستأخذ مزيداً من الوقت، إلا أن المهم هو وضع التطورات والبلاد في سياق الهدف المنشود؛ والوصول إلى السلام والمجتمع الديمقراطي. والحزب يخرج من مرحلة، ويدخل أخرى جديدة عنوانها الرئيس؛ تكثيف النضال السياسي وفق براديغما القائد أوجلان “السلام والمجتمع الديمقراطي”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى