مانشيتمقالات رأي

البوصلة الكردية

كمال حسين

أخيراً نجح الكرد السوريون في الاتفاق على التحدث بصوت واحد؛ فيما يتعلق بتصورهم لشكل ومستقبل الدولة السورية، وبالتالي توافقهم في النظر إلى حل القضية الكردية ضمن صيغة الحل الوطني الشامل، الذي اشترطوا له أن يضمن دستور الدولة السورية القادمة حقوق جميع المكونات السورية، هذه المكونات العرقية والدينية التي لابد أنها قد أصابت حصتها هي الأخرى من نجاح أعمال المؤتمر.

هذا المؤتمر الذي انعقد يوم السبت، السادس والعشرين من نيسان في قامشلو، وقد حضره من الجانب السوري موفدين عن الشعب الكردي، يمثلون جميع المناطق السورية، والتوجهات السياسية الكردية الأساسية، والقوات العسكرية التي تمثلت بحضور القائد العام لها الجنرال مظلوم عبدي.

ومما يجدر ذكره إن قيادة كردستان العراق ممثلة بالرئيس مسعود برزاني، قد بذلت جهوداً كبيرة لإنجاحه، وقد حظي بمتابعة إعلامية واسعة، وفي ظل اهتمام وترقب دولي وإقليمي، تجلى بمشاركة ممثلين عن كل من فرنسا والولايات المتحدة.

لكن وبمعزل عن تلك الإحاطة والاهتمام، وبالعودة إلى موضوع المؤتمر الأساسي، وإلى القضايا التي جرت مناقشتها، وقد تم الاتفاق على تبنيها في البيان الختامي؛ فيمكن القول أن المؤتمر قد حدد اتجاه البوصلة، وإلى سنوات طويلة قادمة، لما يتصل بموقف القوى والأحزاب الكردية من المسألة السورية وصيغة حلها أولاً، ومن خلال حلها تكون نقطة الانطلاق إلى حل مشاكل الشعوب في منطقة الشرق الأوسط كله، وبخلاف النظرة السائدة التي تحاول حكومة الشرع، والمدرسة الإسلامية المتطرفة التي تنهل منها أن تسوقها في دستور الدولة السورية، وبعد فشل وتفجر تجارب الدولة القوموية المركزية السابقة في سوريا والمنطقة، هذه الأفكار والثوابت التي دأبت على التنكر لحقائق الواقع، وتجاهلت على الدوام مزايا الشعوب السورية وخصائصها الإنسانية والاجتماعية والثقافية، وأكرهتها، ومازالت تحاول حتى الآن فرض قيم وثقافة اللون الواحد والقومية والعقيدة الواحدة.

وعلى نحو واضح وجلي؛ أجمع المؤتمر على ضرورة أن يضمن دستور البلاد حقوق ومصالح جميع المكونات السورية، في إقرار جريء وذي معنى بأن السوريين من مكونات مختلفة، وليسوا جميعهم من العرب كما يزعم البعض، كما ليسوا في غالبيتهم من المسلمين أو السنة، بل هم كرد وعرب وسريان آشوريون، وتركمان، هم مسيحيون ومسلمون، سنة وشيعة وعلويون ودروز وإسماعيليون. وهذه نقطة مفتاحية يجب الانطلاق منها، أو التوافق على بديهيتها قبل أي شيء آخر، وهكذا أراد أن يقول المؤتمر، وفي نظرة بانورامية وصادقة للواقع السوسيولوجي السوري، نوه البيان إلى أهمية النظر من عين واحدة إلى جميع المعتقدات، وإلى ضرورة الاعتراف بحقوق الطائفة الأيزيدية.

وفي جانب آخر، وفي شأن منفصل، وبينما ركز البيان على حق جميع أتباع الديانات في ممارسة شعائرهم الدينية؛ فقد ركز على جانب مهم آخر يتصل بحيادية الدولة حيال الأديان، بمعنى أن دستور الدولة يجب أن يهتم بتكريس الدولة اللادينية أو العلمانية التي تفصل بين الدين والدولة، وإلى اعتماد النظام البرلماني في دستور الدولة، عبر المطالبة بدولة برلمانية تقوم على التعددية السياسية، وعلى مبدأ الفصل بين السلطات، تحترم حق المواطنة، وتعترف بالمواثيق والقوانين الدولية، إضافة إلى بند التداول السلمي للسلطة؛ فنرى البيان، وكما جرت العادة في جميع أدبيات مجلس سوريا الديمقراطية نوه إلى مسألتين هامتين، اللامركزية، والتشاركية بين المرأة والرجل على قدم المساواة.

لكن الجديد هذه المرة في هاتين المسالتين؛ هو أن اللامركزية والتشاركية لم تعودا هدفاً مركزياً تتميز بالسعي إليه القوى المنضوية في تحالف مجلس سوريا الديمقراطية فقط؛ بل تكون قد اتسعت دائرة المنادين به ضمن معادلة الطيف الوطني، لتشمل الصوت الكردي على نطاق أشد اتساعاً، الأمر الذي أعطى لشعار اللامركزية ثقلاً خاصاً. ومما يجدر ذكره أن دائرة المنادين بالدولة السورية اللامركزية، وحتى بالفيدرالية؛ أصبحت تتزايد بشكل كبير، سيما في أوساط القوى المدنية والعلمانية الديمقراطية، وأوساط الأقليات الدينية والعرقية، وعلى إثر المجازر التي حصدت وتستمر في حصد أرواح الآلاف من العلويين الأبرياء العُزل، والتي تمتد اليوم إلى محافظة ريف دمشق، صحنايا وجرمانا ومناطق محافظة السويداء.

ومع تطور نطاق حملة التطهير والإبادة التي تشنها الفصائل الإرهابية تحت مظلة حكومة الشرع؛ لتطال هذه المرة أبناء طائفة الموحدين الدروز، بقصد إخضاعهم لمشيئة المدرسة الجهادية العثمانية التوسعية المتطرفة.

يتضح هول المشهد السوري، وحجم الاستقطاب والتعارض بين الثقافة والرؤية السياسية التي تطرحها، أو تسعى السلطات الحالية لتمكينها بالقوة، وما بين سائر المكونات والحركات والأطر. من هنا، ومع تصاعد وتيرة الاستقطاب والخوف والقلق والتوتر من طرف أغلب الفئات بسبب غياب الأمن بجميع أشكاله، ومع تأثر هذا الاستقطاب الحاد وتفاعله مع العوامل الإقليمية التركية الإسرائيلية والعربية؛ فلا ريب بأن الوضع السوري أصبح بفعل كل ذلك يفاقم القلق الدولي من غياب السلم والاستقرار في الجغرافيا السورية ومحيطها.

إلى ذلك يمكن القول إن اللوحة الفسيفسائية السورية تواجه اليوم تحدياً كبيراً، وأن صراعاً دامياً يدور وسيدور حول مالها التاريخي الذي ستستقر عليه، ومن هنا يصبح لكونفرانس القامشلي الأخير، الذي انعقد ليجيب عن سؤالين، إحداها تصور الكرد لحل المسألة الكردية بالدرجة الأولى، كقضية ذات أولوية وطنية وقومية كردية. والثانية إعلان الموقف الوطني الكردي الجامع من حل المسألة السورية. وبما أن المؤتمر قد قال كلمته، والشعب الكردي قد وحَّدَ صوته في الموقف الصريح والمعلن لصالح ترجيح فكرة الدولة الديمقراطية المدنية العلمانية واللامركزية، دولة جميع المكونات والثقافات والاعتقادات.

وبالنظر لأن الكرد مسلمين سنة؛ لا يحق لأحد أن يشكك أو يزاود على أدوارهم التاريخية في نصرة الإسلام والسنة، فإن في موقفهم الأخير الذي تمخض في البيان الختامي أكثر من جواب، وأكثر من مهماز حركة وبوصلة توجه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى