كونفرانس القامشلي وفرصة الكرد التاريخية

محسن عوض الله
لم يعرف الكرد في سوريا عبر عقودهم الطويلة طعم الحياة الكريمة كما يجب أن تكون. لطالما كان الظلم رفيقهم اليومي، سواء من نظام قمعي استبد بكل السوريين، أو من سياسات تمييز طالت وجودهم وهويتهم وحقهم في أن يكونوا كما هم.
اليوم، ومع انعقاد كونفرانس وحدة الصف والموقف الكردي في روجافا – في القامشلي، يبدو أن صفحة جديدة تُفتح أمامهم. صفحة يمكن أن تكون بداية حقيقية لتصحيح مسار طويل من المعاناة، لا للكرد وحدهم، بل لسوريا كلها. هذا الكونفرانس، الذي جاء بعد سنوات من الانقسام والخلافات، لا يمكن فصله عن التحولات الإقليمية والدولية الجارية. فما كان لهذا المشهد من الوحدة أن يتشكل لولا تغير الحسابات، وتبدل موازين القوى التي لطالما غذّت الانقسامات الكردية لحساباتها الخاصة.
مجلس سوريا الديمقراطية “مسد”، وفي بيان واضح، شدد على أن القضية الكردية ليست قضية فئوية أو محلية، بل جزء لا يتجزأ من معركة الحرية والكرامة التي يخوضها الشعب السوري بأسره. وهو موقف يضع الأمور في نصابها الصحيح: فلا حرية لسوريا من دون إنصاف الكرد، ولا عدالة بدون الاعتراف بحقوقهم.
وحدة الصف الكردي، كما أكد بيان المجلس، ركيزة لوحدة الصف الوطني السوري. ففي زمن تنهال فيه الأزمات على سوريا، تبدو أي خطوة نحو التوافق الداخلي خطوة نحو إنقاذ الوطن من المزيد من الضياع.
لكن، وحتى لا تتحول هذه الفرصة إلى مجرد مناسبة عابرة، فإن المطلوب اليوم أكبر من البيانات والكلمات. المطلوب أن تكون مخرجات كونفرانس القامشلي بداية لعمل جاد، لاختبار النوايا أولاً، ثم لترجمة الأقوال إلى أفعال. المشاركة الحقيقية، الشراكة دون تمييز، والانفتاح على مختلف المكونات الكردية، هي العناوين التي يجب أن تؤطر المرحلة المقبلة.
التجارب القاسية علمت الجميع أن الإقصاء والتهميش لا يصنعان إلا الانقسام والضعف. واليوم، لا وقت لمعارك جانبية أو حسابات ضيقة. المطلوب أن يتحمل الجميع مسؤولياتهم، وأن يدركوا أن هذه اللحظة التاريخية لا تتكرر كثيراً.
البيان الختامي للكونفرانس دعا إلى تشكيل وفد كردي تفاوضي، وإلى العمل من أجل حل عادل للقضية الكردية ضمن إطار سوريا ديمقراطية لامركزية. هذا التوجه يحمل الكثير من الواقعية، ويضع الكرد على الطريق الصحيح، شرط أن يستكمل بخطوات جدية على الأرض.
الخطر الحقيقي لا يكمن في الخصوم الخارجيين بقدر ما يكمن في العودة إلى الخلافات القديمة. تلك الخلافات التي، إن عادت، قد تجهض كل شيء قبل أن يبدأ.
إن وحدة الكرد اليوم ليست ترفًا ولا خيارًا بين عدة خيارات. إنها ضرورة وجودية، وفرصة لوضع حد لعقود من التهميش والنسيان. وإن كان التاريخ يعلمنا شيئًا، فهو أن الأمم التي تضيع فرصها، كثيرًا ما تدفع ثمناً لا يمكن احتماله لاحقاً.
ما يحدث اليوم يمكن أن يكون بداية تأسيس لواقع جديد. مستقبل يحفظ الكرامة، ويكرس الحقوق، ويضع الكرد في المكانة التي يستحقونها ضمن وطن حر، ديمقراطي، يحترم تنوعه وتعدديته.
على الجميع أن يدركوا أن هذه الفرصة هي الأمل الأخير قبل أن يُغلق الباب طويلاً. الفرصة التي لا تحتمل التراخي أو المناورة، بل تحتاج إلى شجاعة القرار، ونقاء النوايا، وصلابة الإرادة.
على القوى الكردية أن تدرك جيدا أن التاريخ لا ينتظر أحدًا، وأن الفرصة التي تضيعها اليوم قد تبكي عليها غدا دماَ وليس دموعاَ، وأن الظروف لن تبقي سانحة كثيرا..فهل ينتهز الكرد الفرصة التاريخية أم يكرروا أخطاء طالما وقع فيها أسلافهم؟