في رهانات السوريين على تفاوض الإدارة الذاتية مع دمشق

محمود علي
في تكثيف لحالة الصراع الدائر في سوريا وعليها؛ تتباين المواقف تباعاً، وتظهر بينها تقاطعات في مفاصل هامة، تحدو من قدرة دمشق على التحرك، وتقيد نزوعها الأحادي المستند إلى جملة من المحددات الدينية والمذهبية، وضعتها الحكومة الراهنة أساساً لإعادة بناء سوريا الجديدة وفق تصورها وانتمائها العقائدي والإيديولوجي، الذي يغلب عليه طابع التشدد الديني المطعم بالنكهة “الأموية – التيمية”، وهو ما يعتبره الغرب وكذلك معظم السوريين؛ خطراً على حاضرهم ومستقبلهم، وبأنه لا يختلف عن نظام البعث البائد، سوى في التسميات والمرجعيات.
أثبتت التجربة التاريخية والحضارية، وفق ما يؤكد العديد من علماء التاريخ، أنه لا يمكن أن تبنى الدول على أسس دينية، أو بكلمة أدق؛ لا تتوافق الدولة الدينية – حتى وإن تم بناؤها – مع العلم وروح العصر، بل تعاديه وتلجمه، ولا تقيم أي اعتبار لدور العلم في تطوير المجتمعات والشعوب، وهي ستكون دولة فاشلة بكل المعايير، لطالما أن الدين يستند إلى مقولة “استحضار الماضي التليد” والعمل وفق “نهج السلف الصالح”. هنا يتداخل السياسي مع الفكري والإيديولوجي، ويغدو المشهد هجيناً يعتمد على فكرة واحدة مفادها، الإمساك بتلابيب السلطة، بأي شكل كان، وعدم الاكتراث بهموم الناس وأوجاعهم، ولو كلف ذلك دمار البلاد، وهي النظرية التي اعتمد عليها الأسد لاستمرار نظامه والإيغال أكثر في تعويم العسكرة، وعلى جميع المستويات، ما أوقع سوريا في بحر من الدماء، وخلف جيوشاً من الضحايا والنازحين والمهجرين، وأعاد هندسة ديمغرافية جديدة للمجتمع السوري، وتجذرت فيها المذهبية والطائفية وغدت السمة الأساسية في الصراع الدائر للاستحواذ على السلطة.
السؤال الذي يطرح في سياق الأسئلة العديدة ضمن المشهد السوري المتواتر؛ هل يمكن لاتفاق “عبدي – الشرع” أن يصل إلى نهاياته المرسومة له، إذا ما أخذناه من زاوية توجهات حكومة الشرع ونزعاتها وخطابها الطائفي المذهبي الصرف، والذي يثير مخاوف السوريين والمجتمع الدولي؟ وما هي أوراق القوة لدى الشرع والتي يمكن بها أن يعزز من مكانته التفاوضية مع الإدارة الذاتية، الإدارة التي أعلنت عن تشكيلة وفدها المفاوض مع دمشق؟ وهل ستتفاوض حكومة الشرع من موقعها بوصفها تدير دولة بمؤسساتها وإداراتها، أم أنها ما زالت محكومة للعقلية والذهنية “الجهادية” المتمثلة بـ”هيئة تحرير الشام”، حيث أن تلك العقلية ما تزال تحكم قراراتها وأفعالها على الأرض؟ وما هي قدرة الشرع وحكومته التنصل من الإملاءات والشروط التركية، وهل بإمكانها أن تتبع نهجاً وطنياً مغايراً تقلب حسابات تركيا رأساً على عقب؟ وهناك العديد من الأسئلة قد لا يسع المقال لاستعراض جميعها.
انكشاف حقيقة الشرع وحكومته؛ أحبط آمال السوريين والرأي العام في إجراء أي تعديل على نمطية التفكير السائدة لديه، وتبث أنه لم يشذ بعد عن قواعده “الجهادية” الأساسية، ومهما قيل بأنه لا يملك أدوات التحكم بعناصره، فهذا لا يبرر ممارساتها التي تجاوزت عمليات “فردية”، لتغدو نهجاً ثابتاً وراسخاً في سلوك “الهيئة” المتلبسة بلبوس الدولة، بل غدت في الواقع تنفذ تلك الممارسات تحت غطاء من “شرعية الدولة” وتوظفها في خدمة مآربه المذهبية والطائفية، كرست معها حالة الشرخ المجتمعي، وتحول معها الشرع إلى رجل ضعيف غير قادر على تقويم سلوك أفراده وعناصره. من جانب آخر زجت تركيا بعناصر من مرتزقتها في هيكلية الدولة، وخاصة ضمن الجيش، كورقة ضغط يمكن أن تنقلب على الشرع في الوقت الذي تجد ضرورة فيه، وكممثلين لها في هيكلية الدولة، رغم أن تعيينهم لا يتوافق مع العقيدة والتراتبية العسكرية، حيث أنهم لا يملكون أي تاريخ عسكري، ولكن يبدو أن الشرع قبل بهم مرغماً. وهي المسألة التي تجعل من موقف الشرع مهزوزاً أمام وفد الإدارة الذاتية، وسيضطر للقبول بشروط الأخيرة، ولو كارهاً.
بالمقابل ستحاول الإدارة الذاتية من خلال وفدها ضبط إيقاع المفاوضات على وقع الدفع بها نحو تكريس مبدأ اللا مركزية السياسية، ولي عضد الشرع وحكومته في القبول بها، كحل لا مفر منه أمام الاستحقاقات الوطنية، والأخذ بيده لإخراجه من القوقعة الطائفية ضيقة الأفق، والانطلاق نحو مشاركة سورية شاملة، وإعادة مناقشة جملة الحقائق التي اعتبرها الشرع ثوابت “لا يأتيها الباطل لا من أمامها ولا من خلفها”.
لا شك أن هناك عدة مسارات للتفاوض، وأولها المسار الدستوري والذي يحدد بوصلة المسارات الأخرى، العسكرية والاقتصادية والإدارية وما إلى ذلك. وسيتحتم على اللجنة التي شكلتها الإدارة الذاتية خوض كفاح تفاوضي مرير لإقرار جملة الحقائق والحقوق المتعلقة بتكوين الدستور، وأولها تضمين حق الشعب الكردي والمكونات الأخرى ضمن الدستور السوري، ما يفترض تعديلاً شاملاً لمواد الدستور الذي أعلنه الشرع بنفسه ولنفسه. فالإجحاف بحقوق ومطالب مكونات الشعب السوري في “دستور الشرع”؛ يتطلب مراجعة شاملة له، بل حتى نسفه من أساسه، لطالما أنه كان منحازاً لطائفة دون غيرها، وهو ما انعكس في تشكيلة الحكومة أيضاً، حيث جرى تهميش إرادة السوريين في تقرير مصيرهم واختيار شكل الدولة المناسب له بعد سنوات طويلة من الصراع، ما يستدعي أن يشارك السوريون جميعاً في كتابة دستور جديد يحقق أمانيهم في وطن يحتضن الجميع، دون تمييز بين أحد. والمخاض الدستوري سيحدد ملامح سوريا المستقبل، وهي مهمة وطنية تقع على عاتق اللجنة، وهي موضع ثقة بأنها ستعبّر من خلال عمليات التفاوض عن تطلعات السوريين ككل.
والمعركة التفاوضية ستكون دون شك أصعب من معركة قرقعة السلاح والمواجهة، ومن إحدى متطلباتها التسلح بالحجة والمنطق المستند إلى حقائق التاريخ والجغرافيا وموازين القوى، والاعتقاد الراسخ أن الكرد من الآن فصاعداً سيدحضون الفكرة القائلة بأنهم “يفقدون في السياسة وعلى طاولة المفاوضات، مكاسبهم التي حققوها بالعرق والدم في الميدان”، والتجربة تفند كل تلك الادعاءات، من حيث أن الكرد أثبتوا قدرتهم على خوض مفاوضات ناجحة مع عدة أطراف، والخروج منها بنتائج جيدة، ومجرد الجلوس مع قوة متطرفة حول طاولة مفاوضات يعتبر نجاحاً بحد ذاته. كما أن لديهم المرونة الكافية في تغليب لغة الحوار على المواجهة.
ودبلوماسية الإدارة الذاتية تمكنت خلال الفترة الماضية من تعزيز مواقعها في عدة ميادين، فقدرتها على وقف هجمات الاحتلال التركي ومرتزقته على مناطق شمال وشرق سوريا، وإقناعها للحليف الأمريكي في ممارسة الضغوط على تركيا وحملها على وقف الهجمات، هي الأخرى تعد نجاحاً لها.
لقد آن الأوان أن يتجاوز الكرد عقدة النقص والدونية التي طالما رافقتهم طيلة تاريخهم الطويل، وهو ما ثبت أنهم بارعون فيها أيضاً، وغيرها من الأمور تبقى تفاصيل وجزئيات يمكن التوافق حولها. فمثلما يخوض الكرد ومعهم جميع مكونات شمال وشرق سوريا معركة التفاوض والحوار مع دمشق، بالتوازي مع ذلك بدأ الكرد عملية بناء بيتهم الداخلي، من خلال تحديد موعد عقد المؤتمر القومي الكردي، والذي ستشارك فيه جميع القوى والأحزاب الكردية في روجآفا، ومن المتوقع أن يشهد ولادة هيكلية ومرجعية كردية تحظى بدعم وتوافق جميع القوى الكردية. وفي هذه الحالة الراهنة؛ تحولت روجآفا إلى قبلة وعمق إستراتيجي للأجزاء الأربعة من كردستان، وعيون الكرد تتطلع إلى إنجاز كردي يوازي ما تحقق في باشور/ جنوب كردستان، وهو حلم بات يتحقق على أرض الواقع من خلال هيكلية الإدارة الذاتية، التي قطعت أشواطاً كبيرة في طريق ترسيخ بنيتها السياسية والعسكرية والإدارية، وغدت واقعاً يحظى باحترام وتقدير معظم القوى الإقليمية والدولية من خلال اتساقها وتمسكها بنهجها التعددي والديمقراطي، وباتت تسير بخطى ثابتة نحو نيل الاعتراف الإقليمي والدولي بها ككيان ضمن سوريا الواحدة.
كل الآمال معقودة على اللجنة في تتويج نضالها التفاوضي بنجاح، والسوريون يتطلعون من خلالها إلى تغيير وجهة سوريا، والدخول في مرحلة جديدة سمتها الأساسية الأمن والاستقرار والاعتراف بالآخر المختلف وإشراكه في عملية بناء وإدارة البلاد.