مانشيتمقالات رأي

طبـ ـقات الحـ ـرب في عفـ ـرين

في مثل هذه الأيام قبل خمسة أعوام، أعلنت الحكومة التـ ـركية انتهاء عملية «غصن الزيتون» العسـ ـكرية في منطقة عفرين شمال سوريا الغربي. أفضت العملية إلى سيطـ ـرة تركيا وأذرُعها المحليّة على المنطقة، وإخراج قوات سوريا الديمقراطية منها، بعد معاركَ أدّت إلى تهجير أكثر من نصف سكان عفرين، والذين يُشكّل الكرد نسبةً تزيد على 90 بالمئة منهم.

ترافقت سيطـ ـرة الفـ ـصائل التابعة لتركيا على المنطقة مع وجودٍ عسكري وأمني تركي مباشر، وتم إنشاء أجسام حكمٍ محلي مرتبطة إدارياً بالولايات الحدودية التركية، وليس مع الحكومة السورية المؤقتة التي تحظى بدورها بدعمٍ من أنقرة. تدريجياً، وخلال الأشهر اللاحقة، وصلَ إلى الشمال مهجّرون من مناطق سوريّة عديدة استطاع نـ ـظام الأسد السيطرة عليها مجدداً، وفرضـ ـت الفـ ـصائل المسيـ ـطرة أتاوات على كل نشاط اقتصادي إضافة إلى الأتـ ـاوات المفروضة على مرور القوافل التجارية عبر النقاط الحدودية ونقاط التماس. وبحلول العام 2020، أي بعد عامين من سيـ ـطرة تركيا على عفرين، قالت لجنة التحقيق الخاصة بسوريا، والمنبثقة عن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، إن الانتـ ـهاكات التي تُرتكب في عفرين قد ترقى إلى جرائـ ـم حـ ـرب.

الانتهـ ـاكات التي جرت الإشارة إليها كانت: مُصادرة الممتلكات، تخريب الأراضي الزراعية، القتل تحت التعـ ـذيب والاعـ ـتقال التعسـ ـفي. تحوَّلَ وجه مناطق واسعة من عفرين من اللون الأخضر الذي اشتهرت به إلى لون التراب، بعد ما جرى من تقطيعٍ للأشجار للإتجـ ـار بالخشب من قبل الفـ ـصائل، وكشفت عدة صدامات بين الفصائل ذاتها عن وجود معتـ ـقلاتٍ سريّة جرى فيها ارتكاب أبـ ـشع أنواع الانتـ ـهاكات، بما في ذلك الاغـ ـتصاب والتعـ ـذيب.

يمتلك ما جرى في عفرين منذ خمس سنوات جذوراً شديدة المحلية، ويمتلك معانٍ أكبر من سوريا في الوقت نفسه. بين هذا وذاك، كانت عفرين طوال السنوات الماضية الوشمَ الأبرز على وجه كيانٍ سوري يضمحل ويتفتّت. دفع مئات آلاف الكُرد ثمنَ ذلك بتهجيرهم من بيوتهم وقُراهم وأراضيهم، ودفع الآلاف الآخرون منهم الثمن من حياتهم وحرياتهم.

بين مدينة عفرين، وجنديرس ومعبطلي، وشيخ الحديد، يمتزج بعضٌ من أقذر ما شهدناه في الحرب السورية في طورها الأخير؛ من حكم أذرعٍ محلية تابعة للخارج، مع إصرارٍ مستفحلٍ على مسح الكرد من على هذا الوجود معنوياً وحتى ماديّاً إذا اقتضى الأمر، مع سوء الحظ الذي يُصيب الناس الذين قُدِّرَ لهم أن يعيشوا على الطرف الخاطئ من خطوط التماس بين قوى دولية.

استندت معركة احـ ـتلال عفرين إلى التركيبة ذاتها التي استعملتها تركيا في عملية «درع الفرات»، والتي فَرضت بموجبها سيطرتها وسـ ـيطرة الفصـ ـائل المواليـ ـة لها على المناطق الممتدة بين نهر الفرات ومنطقة أعزاز في 2016 و2017: مزيجٌ من مقاتلين معارضين في ريف حلب الشمالي، كانوا لا يزالون في فصائلهم أو أصبحوا خارجها بعد هجمات تنظـ ـيم داعـ ـش على المنطقة، وفصائل بانتماءات قومية تركمانية جرى «تركيبها» من مجموعات أصغر كانت موجودة في ريف حلب أصلاً أو منسحبة من ريف حماة، وفصائل لا من هذه ولا تلك، بل مجرد مرتزقـ ـة يـ ـقاتلون من أجل الرواتب. هذه التوليفة كانت عماد ما سيسمى لاحقاً بـ «الجيـ ـش الوطنـ ـي»، وأُلحِقَت بها فيما بعد فصائل لاذت بالشمال بعدما انهارت سيـ ـطرتها على مناطقها في محافظات دير الزور وريف دمشق ودمشق.

على الرغم من تلك التركيبة، التي كانت أحد المرّات النادرة التي تجتمع فيها انتماءات مناطقية شديدة التباين في كيانٍ عسكري سوري واحد، إلا أن النتيجة كانت أوسع تشكيل مضادّ للوطنية في سوريا، وذلك بسبب تلك الاختلافات المناطقية إضافة إلى استعداد تلك المجـ ـموعات، وخاصة في أعلى هرمها، لتكون ذراعاً أو سـ ـلاحاً بيد من يَدفع. كان هذا الكـ ـيان العـ ـسكري انعكاساً لكل ما هو ضدَّ سوريٍ في العمق، وربما كان أكثر صُوَر هذا النقيض سوءاً: توّرطٌ في تجارة المـ ـخدرات منذ البداية، وتوّرطإ في الإتجار بالبشر والتهـ ـريب والاغـ ـتيال والقـ ـتل المأجـ ـور، وارتـ ـكاب كل ما يمكن تخيّله من انتهـ ـاكات ضد القوانين والملكيات وحقوق البشر الأساسية، وهي الأمور التي تجلّت كلها في احـ ـتلال عفـ ـرين وتقاسمها إقطاعات بين قادة تلك التنظـ ـيمات.

في احتلال عفرين برزَ أيضاً وجهٌ عبّر عن نفسه مجدداً بلا أي التباس: الكُرد زائدون عن حاجة المنطقة، لا مكان لهم في عوالم القوميين والفاشـ ـيين ضمن الدول الأربع التي تتقاسم خرائطُها الوجودَ الكردي، وحين يكون من الممكن مسح هذا الوجود أو حتى التخلّص من جزء منه، لن يترددوا أبداً في ذلك. حوالي 300 ألف كردي تمّ تهجيرهم من عفرين، آلاف غيرهم خسروا ممتلكاتهم وأراضيهم، وآلافٌ أخرى قُتلوا أو اعتـ ـقلوا لأنهم كُرد فقط.

قامت الفصائل بتحويل مبانٍ حكومية أو ممتلكات خاصة إلى مراكز احتجاز، وجرى اعتـ ـقال أعداد كبيرة من المدنيين بينهم نساء وأطفال بتهم الانتماء لـ«قوات حماية الشعب»، وكان الهدف الحقيقي في كثير من المرّات هو طلب الفدية، وفي حالات أخرى جرى تعذيب المعتـ ـقلين والمعـ ـتقلات، بالضـ ـرب والحرق والكهرباء، بالإضافة إلى الاغتـ ـصاب. وقد سجّلت منظمات حقوقية، من بينها سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، حالات انتـ ـحار بين معـ ـتقلات لدى تلك الفصـ ـائل.

لم نشاهد في السنوات الخمس الماضية شوارع مدينة عفرين وهي تحتفل بالنوروز. من بقي واستطاع الاحتفال به سيلتجئ إلى المزارع البعيدة، وقد جرى منع الاحتفال بشكل علني من خلال قرار أصدره المجلس المحلي لمدينة عفرين المرتبط بالاحـ ـتلال، فيما حاولت الفصـ ـائل في الأعوام اللاحقة الترويج للسماح باحتفالات النوروز، إلّا أنّ تقارير صحفية وحقوقية رصدت عمليات اعتـ ـقال لشبان بتهمة المشاركة في الاحتفالات خلال الأعوام الماضية. أسماء المحال المُستولى عليها في مدينة عفرين تم تغييرها، فيما جرى توطين مهجرين آخرين من مناطق أخرى في بلدات الكُرد ومدنهم.

هذه إبادةٌ موصوفة يجب ألا تلتبس علينا أبداً.

في عفرين أيضاً، يمكننا ملاحظة تأثير الاتفاقيات الدولية التي لا تلتفت إلى حياة الناس العاديين ومعاشهم. اعتمدت موسكو وواشنطن نهرَ الفرات خطاً لتقاسم نفوذهما في سوريا، وأنتج هذا ثغرة استطاعت تركيا من خلالها تنفيذ عملـ ـياتها العسـ ـكرية، وشاء الحظ العاثر لأهل عفرين أن يقعوا على الجانب الخاطئ من خطوطٍ رسمتها قوى دولية في القرن الواحد والعشرين.

خمس سنواتٍ مرّت فقط حتى اليوم، صنعت شرخاً في سوريا لن يندمل بعد مئة عام.

عروة خليفة

ADARPRESS #

///

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى