مقالات رأي

هل يجرؤ النـ ـظام في دمشق على الانفتاح؟

راتب شعبو/ العربي الجديد

يحتاج المرء إلى أن ينظر فقط كي يرى أن الأسباب التي دفعت جامعة الدول العربية إلى اتخاذ قرار تعليق عضوية سورية ومقاطعة النظام السوري لا تزال قائمة. عبر عن هذه الحقيقة رئيس وزراء قطر، وزير خارجيتها محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، وقطر من الدول العربية القليلة التي لا تزال تعترض على عودة سورية، ممثلة بالنظام، إلى الجامعة. والحق أنه، منذ خريف 2011، تاريخ القرار المذكور، برزت أسباب إضافية تعزّزه، بدلاً من أن تدفع إلى الرجوع عنه، منها لجوء النظام إلى استخدام الأسلحة الكيميائية، بصورة متكرّرة، ضد مناطق يسيطر عليها مسلحون معارضون للنظام، وقصف عشوائي للمدن بما في ذلك الأسواق والمشافي، والتسبّب بموجات نزوح بالملايين، وإجراء تغييراتٍ سكانية ذات بعد مذهبي، إضافة إلى ظهور وثائق مصوّرة لموت آلاف السوريين في سجون النظام ومعازله، على خلفية ثباته على موقفه الرافض للإقرار بحق وجود معارضة سياسية.
فوق ذلك، قاد تطوّر الصراع في سورية إلى عجز الدولة السورية عن حماية وحدة الأراضي السورية، فكان أن اضطرّت للانسحاب من مناطق واسعة، تصل إلى أكثر من ثلث مساحة سورية. ونشأت على هذا الثلث سلطتان تمتلكان كل مقوّمات الدولة سوى الاعتراف الدولي الرسمي الذي ما زال يحتفظ به نظام الأسد. على هذا، لا يأتي الانفتاح الذي نشهده اليوم فقط بعد ذهاب طغمة الأسد بعيداً في الطريق الذي قاد إلى القرار العربي بعزله، بل هو أيضاً انفتاح على دولةٍ باتت منقوصة السيادة السياسية على الشعب وعلى التراب السوريين. يبدو كما لو أن العرب قاطعوا نظام الأسد، حين بطش بالسوريين، وعادوا عن قرارهم حين مضى بعيداً في بطشه.
إذن، ما التغيرات التي تفسر سعي الأنظمة العربية إلى الانفتاح على نظام الأسد؟ أم أن هذا الانفتاح الذي نراه ليس سوى مدخلٍ سلميٍّ إلى تسويةٍ ما للوضع في سورية؟ وإذا كان الحال كذلك، فماذا يمكن أن تكون هذه التسوية؟ وما إمكانات نجاحها؟. .. يبدو أن الدافع إلى هذا التحرّك العربي وصول الوضع في سورية إلى حالة جمود، سببها أن الطاقة الدافعة للتغيير قد تراجعت لدى الأطراف الداخلية التي باتت تصرف طاقتها في الحفاظ على ما في يدها، والحال كذلك في ما يخصّ الأطراف الخارجية التي يحوز كل منها ما يناسب محصّلة قدرته وإرادته. غير أن هذا الجمود على انقسام غير شرعي دولياً، يبقى مقلقاً في العلاقات الإقليمية والدولية. وهكذا، بعد برود خطوط التماسّ، أصبحت الحاجة ملحّةً لاستيعاب الوضع السوري في إطار إقليمي مقبول. على هذا الضوء، يمكن فهم التحرّك العربي.
لا يمكن أن تستمر القطيعة إلى ما لا نهاية. والأطراف السورية الفاعلة، من ضمنها نظام الأسد، استقرّت على حالٍ ثابتٍ من التشابك بين الخارج والداخل، وباتت قدرات هذه الأطراف متناسبة مع وضعها الراهن. هكذا يأتي المسعى العربي لتحريك عربةٍ لم تعد تمتلك قوة داخلية للحركة. نخطئ إذا اعتقدنا أن سلطة الأسد سعيدة بهذا التحرّك العربي، أو بالتحرّك الروسي الإيراني الذي يدفع باتجاه تقاربها مع السلطات التركية. السبب أن سلطة الأسد مضطرّة في الحالتين إلى الإقرار بواقع سوري جديد لا تريد رؤيته، فما بالك بالإقرار به. لقد بات الوضع الأنسب لسلطة الأسد التي ابتعدت أكثر عن المعنى العام للدولة هو الوضع السوري الحالي، مثله في ذلك مثل بقية السلطات التي نشأت واستقرّت خلال السنوات الأخيرة، والتي عرضت، بسرعةٍ لافتة، صورةً شبيهة بسلطة الأسد، وباتت تخشى التغيير، سعيدةً بما استقرّ تحت يدها.
ليس من المفاجئ أن يكرّر إعلام نظام الأسد، بالتناغم مع إعلام “القوى الحليفة”، القول الاستفزازي، الذي ينمّ عن ضعف، إن العرب عادوا إلى سورية وليس العكس، وإن اللقاء مع الأتراك دونه شروط تفرضها سورية … إلخ. ولن يكون من المفاجئ أن تعمل سلطة الأسد على تخريب كل مساعي “التطبيع” المبذولة، ذلك أن التطبيع سوف يفرض على سلطة الأسد الاقتراب أكثر من مفهوم الدولة التي تكون محلاً لانعكاس ميزان القوى السياسية الداخلية، وهو ما يهرب منه نظام الأسد كي يستمرّ على حاله. الراجح أن يغلب ميل طغمة الأسد إلى تفادي الحل السياسي المطلوب، على رغبتها في أموال إعادة الإعمار، حين يوضعان في الميزان.
الكلام الذي تقوله الدول العربية، بما فيها الدول الأكثر انفتاحاً، ثقيلٌ على مسمع ممثلي نظام الأسد. مثل الكلام عن التوصّل إلى “حلٍ سياسي للأزمة السورية يحافظ على وحدة سورية وأمنها واستقرارها” .. “تهيئة الظروف اللازمة لعودة اللاجئين والنازحين السوريين إلى مناطقهم، وإنهاء معاناتهم، وتمكينهم من العودة بأمان إلى وطنهم” … كما جاء في البيان السوري السعودي عقب زيارة وزير الخارجية السوري فيصل المقداد إلى جدّة. أما ما لا تظهره البيانات المشتركة، فهو المطالبة بالحدّ من إنتاج المخدرات وتصديرها، وقد أصبحت مصدرا أساسيا لتمويل نظام الأسد، إلى الحد الذي جعل سورية تصنّف “دولة مخدّرات”.
كما يصعُب تصوّر التحرّك العربي تجاه نظام الأسد، بعيداً عن المنظور الغربي، والأميركي بشكل خاص، الذي يضع حدوداً لهذا التحرّك يصعب عليه تجاوزها، فقد جاء في رسالة وجهها مسؤولون وخبراء أميركيون سابقون إلى إدارة بادين “إنّ المحاولات العربية لتطبيع العلاقات مع النظام السوري من دون إصلاحات سياسية تتعارض مع أجندات الأمن وحقوق الإنسان الأميركية”. لا تستطيع الحكومات الديمقراطية هضم نظام ارتكب هذا القدر من الجرائم من الكيميائي إلى المخدّرات، وصدرت بحقه قوانين صريحة.
إذا كانت الحرب الباردة، وحاجة الديمقراطيات الغربية إلى إسبانيا، جعلت هذه الدول تستوعب فرانكو بعد كل جرائمه وتحالفاته مع هتلر وموسوليني، فلا يوجد ما يعادل ذلك في ما يخصّ نظام الأسد. على هذا، يصعب توقع انفتاح عربي “مجّاني” على النظام، فلهذا الانفتاح ثمن سوف يوجب على النظام دفعه، ويبدو لنا أن الرصيد السياسي للنظام أفقر من أن يتحمّل الثمن المطلوب، الأمر الذي يجعلنا نتوقّع تعثّر مسار خروج نظام الأسد من عزلته.

ADARPRESS #

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى