أخبارتقارير

كيفية الحفاظ على الحكم الذاتي لشمال شرق سوريا


لإبطال التدابير المزعزعة للاستقرار القادمة من تركيا ومحور الأسد، تحتاج الحكومات الغربية إلى تقديم المزيد من المساعدة الإنمائية لـ “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” – ولكن بطريقة هادفة تُطمئن السلطات المحلية وتقلل من سوء إدارة المنطقة.

تجد “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” (“روجافا”) نفسها اليوم في وضع سياسي واقتصادي وأمني محفوف بالمخاطر بشكل متزايد. فالتهديد التركي بشن هجوم قائم باستمرار على الحدود، ويفقد بعض السكان الثقة بقدرة “روجافا” ذات القيادة الكردية على توفير الأمان والاستقرار على الرغم من غياب الدعوات الواسعة النطاق إلى عودة نظام الأسد. وقد أثبت الهجوم الذي شنّه تنظيم “الدولة الإسلامية” مؤخراً على “سجن الصناعة” أن الجهاديين ما زالوا يقومون بعمليات في المنطقة، وأن الاستياء الكبير السائد في المناطق العربية الشديدة الفقر قد يمنح التنظيم الإرهابي البيئة الحاضنة لتجنيد جيل جديد من المقاتلين. وإذا كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون يأملون بمنع “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” من الانهيار، فقد حان الوقت الآن لإعادة صياغة الاستراتيجية التي يعتمدونها هناك.
نقص في الطاقة والغذاء والمياه
كان هذا الشتاء بارداً بشكل خاص في “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” – فلم تزوّد الحكومة السكان بوقود التدفئة منذ تشرين الثاني/نوفمبر، وشرائه من السوق السوداء أمر محظور. وكانت المدن تحظى عموماً بتغذية كهربائية تتراوح بين أربع إلى ست ساعات فقط يومياً، والقرى من ساعة إلى ساعتين. ويمكن أن توفر المولدات التي يتم شراؤها من القطاع الخاص بضع ساعات إضافية ولكن حتماً ليس طيلة اليوم، ويعزى ذلك إلى التكاليف الباهظة ونقص الوقود.
وقد يعود انقطاع الطاقة جزئياً إلى مستويات المياه المتدنية في خزانات السدود على طول نهر الفرات – نتيجة للجفاف المحلي، وسياسات تركيا للاحتفاظ بالمياه في أعالي النهر، والضخ الهائل للمياه الجوفية. ونتيجةً لذلك، لا تتدفق المياه بشكل كاف إلى التوربينات القديمة في منشآت الطاقة الكهرمائية المحلية لكي تعمل بشكل صحيح. كما انخفض إنتاج الوقود، ويرجع ذلك جزئياً إلى ضرورة تحديث البنية التحتية لاستخراج النفط في المنطقة، ولكن أيضاً إلى الكميات الإضافية من النفط التي كانت “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” تصدّرها إلى نظام الأسد والعراق من أجل الحصول على المزيد من العائدات.
وفيما يتعلق بالإمدادات الغذائية، يتم حالياً تقنين الخبز المدعوم، وتقوم المرافق الحكومية باستبدال بعض القمح في الأرغفة بطحين الذرة أو الصويا. وكما هو الحال مع الوقود، يتمتع السكان من الناحية العملية بخيار شراء كميات أكبر من الخبز ذي الجودة الأفضل من الأفران الخاصة، ولكنه أغلى بثمانية أضعاف – حوالي 2000 ليرة سورية (0.50 دولار أمريكي) لكيس وزنه كيلوغرام واحد. وتجدر الإشارة إلى أن الرواتب الشهرية المحلية تتراوح بين 150 ألف ليرة (37.50 دولاراً) للعمال اليدويين إلى 300 ألف ليرة (75 دولاراً) لمعلمي المدارس الثانوية والجنود. وبالفعل، تسبب التخفيض المستمر لقيمة الليرة في انخفاض هائل في القدرة الشرائية، لأن “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” لا تملك العائدات الكافية لرفع قيمة الأجور.
وبصرف النظر عن الوقود والخبز وعدد قليل من المنتجات الغذائية الأخرى، يتم استيراد معظم السلع المستهلكة في “روجافا”، نظراً لعدم وجود صناعة محلية عملياً. وبالتالي، يعتمد اقتصاد المنطقة إلى حد كبير على عدد قليل من المعابر المتصلة بالأراضي الخاضعة للنظام (منبج والطبقة ودير الزور)، والأراضي الواقعة تحت سيطرة تركيا و «إقليم كردستان العراق» ( فيشخابور).
وتحاول المنظمات غير الحكومية مساعدة “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” لمواجهة العديد من هذه التحديات، بما في ذلك نقص هيكلي في المياه المرتبط بحالات الجفاف الدورية والاحتباس الحراري. ويُعد تجديد شبكات الري ومياه الشرب أولوية قصوى للمساعدة الإنمائية، وقد نجحت جهود إعادة التأهيل التي تم القيام بها حتى الآن. ومع ذلك، فإن مجرد صيانة النُظم التي كانت غير كافية قبل الحرب لن تكون كافية لمواجهة التحديات المتزايدة التي تشكلها المياه.
على سبيل المثال، عانت مدينة الحسكة من نقص في المياه لأن مصدرها الرئيسي، محطة ضخ علوك بالقرب من رأس العين، أصبحت تحت سيطرة تركيا خلال هجوم كبير نفذته في تشرين الأول/أكتوبر 2019. وجرى توسيع “قناة صور” لسحب المياه من نهر الفرات، ولكن ذلك لم يكن كافياً لتلبية حاجات سكان المنطقة الذين يقدر عددهم بمليون نسمة. ويعود النقص جزئياً إلى واقع عدم كفاية التيار الكهربائي المتوفر لنقل الكميات الضرورية من المياه لمسافة تزيد عن 250 كيلومتراً. بالإضافة إلى ذلك، زاد سكان وادي الخابور الممتد على طول طريق القناة أنشطة الضخ غير الشرعية، مما أدّى إلى تراجُع إمدادات الحسكة إلى حوالي 50 بالمائة عن مستواها الطبيعي. ومرة أخرى، تساعد المنظمات غير الحكومية المدينة في حل هذه المشكلة من خلال تدابير مؤقتة، ولكنها لا تحل محل دولة لديها سياسة مائية متكاملة – وينطبق الشيء نفسه على العديد من القطاعات الأخرى الضرورية لاستئناف الحياة الطبيعية والإشراف على التعافي الاقتصادي الدائم.
مشاكل في النهج الغربي
تميل المنظمات غير الحكومية المعنية إلى اتباع أحد النهجين لمساعدة “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا”. وتعمل بعض وكالات التنمية التي تموّلها الولايات المتحدة و”الاتحاد الأوروبي” بشكل مباشر في المناطق التي تساعدها، حيث يرحب السكان المحليون والسلطات بشكل عام بمساعدتهم. ومع ذلك، تعمل المنظمات غير الحكومية الأخرى بشكل رئيسي من مكاتب بعيدة على الحدود (فيشخابور) أو داخل العراق (في أربيل)، وتقوم على الأكثر بزيارات ميدانية قصيرة بين الحين والآخر. وتميل هذه المنظمات إلى تعهيد جزء كبير من عملها إلى منظمات غير حكومية أو شركات محلية من دون إشراف أو تقييم فعلي للاحتياجات، مما يؤدي إلى درجة كبيرة من سوء الإدارة والفساد. على سبيل المثال، تُعتبر الفواتير وعروض الأسعار المزورة أمراً شائعاً، وغالباً ما يتعرض الموظفون والعمال للابتزاز عند توقيعهم عقود العمل، كما يجري تكرار بعض المشاريع من دون الحاجة إلى ذلك، فقط لكي تتمكن المنظمات من تبرير ميزانياتها.
وعلى الرغم من أن قرار العمل عن بُعد يمكن أن يعزى جزئياً إلى الظروف الأمنية، إلا أنه يهدد على ما يبدو فعالية مئات ملايين الدولارات التي يتمّ ضخها في منطقة “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا”. ولكن الوضع غير مقبول لأن احتياجات المنطقة هائلة، وقد بدأ سوء الإدارة المستشري بمفاقمة الاستياء المحلي من سياسات المساعدات الغربية.
وتتمثل مسألة أخرى في اكتفاء الحكومات الغربية في التدخل في حالات الطوارئ بدلاً من اتّباعها سياسة إعادة إعمار فعلية تشمل مشاريع بنية تحتية هامة. ومن المُسلَّم به أن “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” لا تحظى باعتراف رسمي على المستوى الدولي، مما يحد من أساليب التدخل المتاحة. ولكن العوامل الخارجية التي يمكن تداركها لعبت دوراً رئيسياً أيضاً. فقد استخدمت روسيا حق النقض مراراً وتكراراً لعرقلة جهود الأمم المتحدة لإعادة السماح بمرور المساعدات المباشرة عبر الحدود من العراق، الأمر الذي أرغم العديد من الوكالات على العمل من خلال نظام الأسد في دمشق. وفي الشمال، واصلت تركيا عملياتها المعتادة من القصف وإطلاق القذائف عبر الحدود من أجل زعزعة استقرار المنطقة وإخافة السكان وإبعاد الاستثمارات. ففي كوباني على سبيل المثال، أوقف مطوّرو العقارات معظم أعمال البناء منذ تشرين الأول/أكتوبر 2019 خشية أن يكون مصير المدينة مشابهاً لعفرين أو رأس العين الخاضعتين للسيطرة التركية.
ويقيناً، تشير بعض التدابير إلى أن الوضع الاقتصادي في منطقة “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” أفضل مما هو عليه في المناطق التي يسيطر عليها النظام من عدة نواحٍ. إلا أن هذا لا يعني أن الوضع جيد أو مستدام. فحتى الإصلاحات المؤقتة يمكن أن تتهاوى بسرعة في حال حصول أي هجوم تركي جديد، أو إغلاق الحدود لفترات طويلة، أو زيادة الجفاف سوءاً، أو أي عدد من السيناريوهات الأخرى. وبينما يُعَد وجود القوات الأمريكية على الأرض شرطاً لا غنى عنه لـ “روجافا”، فإن وجودها ليس كافياً لضمان بقائها. وعليه، تُعتبر المساعدة الإضافية في مجال التطوير، وإعادة التفكير الاستراتيجي بشأن كيفية ومكان تقديمها ضرورية لإبطال التدابير المزعزعة للاستقرار القادمة من تركيا ومحور الأسد، والتي أثارت مشاكل اقتصادية محلية وأزمة ثقة في مشروع الحكم الذاتي.
الخاتمة
كان لدى العديد من سكان “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” آمال كبيرة في أن يكون انتخاب جو بايدن بمثابة إشارة إلى تعزيز مشاركة الولايات المتحدة بعد الانسحاب الأمريكي الكارثي من الحدود التركية في تشرين الأول/أكتوبر 2019. ولسوء الحظ، كانت الإدارة في “روجافا” راضية حتى الآن عن مقاربة تنطوي على أدنى حد من الخدمات إزاء سوريا. وبعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، تخشى السلطات في “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” من أن تواجه المصير نفسه – وهو الخوف الذي تفاقم بسبب رحيل المبعوث الخاص ديفيد براونشتاين في كانون الأول/ديسمبر الماضي بعد شغله هذا المنصب أقل من عام واحد. فوفقاً لبعض التقارير كان يحظى بشعبية كبيرة وقدّم تأكيدات كثيرة بشأن وجود القوات الأمريكية. وناهيك عن صفاته الشخصية، يمكن أن يلحق التغيّر السريع في الفريق السياسي الضرر بشكل خاص بالعلاقات مع المسؤولين في الشرق الأوسط، ولن تشكّل “روجافا” استثناءً. وإذا كانت الحكومات الغربية ترغب فعلاً في دعم الحكم الذاتي في شمال شرق سوريا، فعليها طمأنة السكان المحليين من خلال اتّباع سياسة طويلة الأمد تقدّم في الوقت نفسه فوائد ملموسة فورية.
أما العناصر الأكثر إلحاحاً لمثل هذه السياسة، فهي واضحة. يجب على التحالف الدولي أن يعلن صراحةً أن قواته لن تغادر منطقة “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” قبل أن توافق دمشق على اتفاق سياسي بشأن الحكم الذاتي – وحتى في ذلك الحين بضمانات جدية فقط. وبخلاف ذلك، قد تشعر السلطات في شمال شرق البلاد بأنها مضطرة لطلب الحماية الروسية أو حتى الإيرانية ضد تركيا. وحالياً، تتمركز القوات الروسية المتواجدة في المنطقة في قواعد مؤقتة ولا تخرج إلا ضمن قوافل ترافقها «قوات سوريا الديمقراطية». ومن شأن وجود أمريكي على المدى الطويل أن يزيد من عزلة هذه القوات الروسية وربما يساهم في رحيلها، خاصة إذا رأت «قوات سوريا الديمقراطية» أنها لم تعد بحاجة إلى موسكو. ومع هذا، فإن تحقيق ذلك يتطلب قيام واشنطن وحلفائها بإقناع تركيا بوقف تهديداتها عبر الحدود وإخلاء المنطقة بين تل أبيض ورأس العين، فبهذه الطريقة فقط يمكن لـ (“روجافا”) استعادة بعض الترابط الجغرافي.
وعلى الصعيد الاقتصادي، يجب أن يتجاوز الدعم الغربي مجرد محاولة الحفاظ على مستويات معيشية أفضل من تلك السائدة في منطقة النظام المحاصرة. فالحكم الذاتي الفعلي في شمال شرق البلاد يتطلب سياسة إعادة إعمار حقيقية.

فابريس بالونش هو أستاذ مشارك في” جامعة ليون 2″ وزميل مساعد في معهد واشنطن.

ADARPRESS #

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى