عفـ.ـرين التي أحبـ.ـبتها… متى تعـ.ـود؟

محسن عوض الله
منذ اهتمامي بقضية الشعب الكردي، كانت عفرين شيئاً مختلفاً، ليست مجرد مدينة على الخريطة، بل عاطفة تجذبك إليها دون أن تراها، يأسرك عبق زيتونها قبل أن تتذوقه، وتحب أهلها قبل أن تعرفهم.
لم تكن عفرين يوماً مدينة عادية، هي وجدان كامل لقضية تبحث عن العدالة، ورمز لحلم الأكراد في وطن يحتضنهم دون خوف. وربما لهذا السبب بالذات، كانت دوماً هدفاً لكل من أراد كسر هذا الحلم.
منذ عقود، وعفرين في مرمى النيران. كل من أراد ضرب الهوية الكردية بدأ منها، لأنها القلب، وإذا أُصيب القلب، وهن الجسد كله. وفي شتاء 2018، كان الجرح الأعظم، حين دخلت القوات التركية المدينة تحت شعارات الأمن ومحاربة الإرهاب، لكنها في الحقيقة كانت حرباً على هوية المدينة وسكانها.
لم يكن الهدف مجرد السيطرة على الأرض، بل إعادة رسم ملامحها، اقتلاع جذور أهلها، وتوطين آخرين لا يعرفون شيئاً عن رائحة ترابها ولا عن تاريخها الممتد منذ آلاف السنين.
منذ ذلك الحين، تغيّرت عفرين. هُجّر أهلها وتفرّقوا في مختلف البقاع، فيما امتلأت بيوتهم بوجوه غريبة لا تشبه المكان ولا تعرف لغته. على أراضيهم شُيّدت مستوطنات بتمويل تركي وقطري وفلسطيني، ترفع فوقها لافتات “الإعمار” و“الرحمة”، لكنها في الواقع أدوات لطمس ما تبقّى من ملامح المدينة الكردية.
عفرين التي كانت تُعرف بزيتونها وعذوبة مائها، باتت اليوم معروفة بخيام الغرباء ومبانٍ أُقيمت على أنقاض الذاكرة. الاحتلال لم يكتفِ بتغيير الخرائط، بل حاول أن يغيّر الوجدان. ومع كل حجر جديد يُوضع في تلك المستوطنات، تُقتلع ذكرى من روح المدينة، وتُكتب صفحة جديدة لا تشبه تاريخها.
لكن رغم كل ذلك، تبقى عفرين كما عرفها محبوها مدينة لا تُهزم. قد يغيب أهلها عن بيوتهم، لكن رائحتهم ما زالت في الهواء، وظلهم ما زال على الجدران؛ ربما لأن المدن الحقيقية لا تموت بالاحتلال، ولا تُمحى بهوية مفروضة، بل تبقى تنتظر لحظة العودة التي تعرف أنها آتية مهما طال الطريق.
عفرين ما زالت تنتظر التحرير. تنتظر أن تمتد إليها يد العدالة بعد كل هذا الصبر الطويل. لم يعد مقبولاً أن تبقى قراها ومبانيها مغتصبة، وأن يظل زيتونها أسيراً في أرضٍ غُيّبت ملامحها، فيما تحررت دمشق واستعاد السوريون أنفاسهم بعد سنوات الحرب.
لا يمكن أن تكتمل صورة التحرير فيما تبقى عفرين غريبة عن جسد الوطن. فهي ليست مجرد مدينة في الشمال، بل ذاكرة كاملة لسوريا التي حلمت بالحرية، ورمز لهوية حاول كثيرون طمسها ولم يفلحوا. كل حجر فيها يروي قصة صمود، وكل غصن زيتون هناك يشهد على شعب لم يرضخ مهما كانت الجراح عميقة.
اليوم، وبعد أن بدأت ملامح الدولة الجديدة تتشكل، يبقى الأمل معقوداً على تحرك وطني عاجل يعيد عفرين لأهلها، يعيد الزيتون لأصحابه، ويعيد للمدينة نبضها الذي اختطف منذ سبع سنوات.
تحرير عفرين ليس قضية كردية فحسب، بل قضية كرامة وطنية، امتحان حقيقي لحكومة دمشق الجديدة التي وعدت بطيّ صفحة الحرب وبناء سوريا لكل أبنائها.
لن تعود عفرين بمجرد بيان أو قرار، بل بإرادة تُعيد الحق لأصحابه، وتُنهي زمن التغيير القسري والوجوه الغريبة. حين تعود عفرين، ستتنفس سوريا كلها. فهي القلب الذي إذا عاد إليه الدم، دبت الحياة من جديد في الجسد كله.




