من قبرص إلى سوريا.. تركيا أمام تـ.ـحـ.ـدّيـ.ـات ووجـ.ـوديـ.ـة
محمود علي
تمر تركيا بمرحلة تواجه فيها تحديات وجودية، ولأول مرة منذ تأسيس نظامها الجمهوري في بداية العشرية الثانية من القرن الماضي، وتضعها أمام مرحلة عاصفة بالتحولات الجذرية الضاغطة بكل قوة، ووصلت بها إلى مرحلة تبحث بشتى الوسائل عن سبل تحافظ فيها كيانها المهزوز الأركان، ولتضطر معها للإجابة على الأسئلة العديدة المطروحة عليها من الداخل والمحيط الإقليمي والدولي.
لا شك أن سياسة “صفر المشاكل” التي طرحها وزير الخارجية ورئيس الوزراء الأسبق “أحمد داود أوغلو”، قد انقلبت إلى سياسة “صفر أصدقاء” مع أردوغان، الذي اتبع إستراتيجية التمدد في دول الجوار والتدخل بشكل فظ في شؤونها الداخلية، ليستغل ما تسمى “ثورات الربيع العربي” وينفذ مشاريعه التوسعية، وعلى رأسها ما يدعى “الميثاق الملّلي”، “الوطن الأزرق”، والادعاء أن الجغرافيا الراهنة لتركيا لم تعد تسع الأتراك.
استخدم أردوغان جماعة الإخوان المسلمين أداة في تنفيذ مشروعه الاحتلالي في منطقة الشرق، بدءاً من تونس، ليبيا، مصر، إلا أنه كان تأثيره بالغاً في سوريا بحكم الجوار الجغرافي، وحاول طيلة سنين الحرب الأهلية تثبيت الإخوان في كل مفاصل الحراك العسكري والشعبي والسياسي، وكذلك في مرحلة ما بعد سقوط النظام البائد.
التدخل التركي السلبي في سوريا بدأت ارتداداته تنعكس على الداخل التركي وعلى سياساتها الخارجية، وأيضاً تحالفاتها واصطفافاتها خاصة مع دول المنطقة، ودخلت في حالة عِداء مستفحل مع معظمها، ما جعلها دولة مارقة، تعمل بمفردها، ولا تستطيع الخروج من قوقعتها وذهنيتها الاحتلالية الإنكارية، رغم التنازلات الكثيرة التي قدمها أردوغان – وما يزال يقدمها – لكثير من الدول الفاعلة في المنطقة والعالم. وفي كل مرة يتعرض لخيبة أمل جراء سياساته المبنية على الإنكار والاستغلال بالدرجة الأولى، خاصة تجاه الشعب الكردي وممثليه في كل أجزاء كردستان.
التحولات والتغيرات في المشهد الإقليمي والدولي لا يَسُرُّ تركيا مطلقاً، وهي استدركت أنها باتت خارج اللعبة الدولية والتوازنات الجديدة الناشئة، بل بدأت تتلمس رأسها وتدرك أنها مهدَّدة في وجودها وأكثر من أي دولة أخرى، وأن عضويتها في حلف الناتو لم تعد تجديها نفعاً أمام حجم الاستحقاقات التي تواجهها، والتي ستدفع فاتورتها أكثر مما تتصورها.
تحدَّث القيادي في منظومة المجتمع الكردستاني “دوران كالكان/ عباس” قبل أيام، وللمرة الثانية، أن رياح التغيير ستهب على تركيا من قبرص، وبدأت أولى النسمات تهب عليها من خلال نتائج الانتخابات التي أوصلت إلى الرئاسة شخصاً يدعو إلى توحيد شطري قبرص، ولتغدو بعدها تحت السيادة اليونانية، أو بأفضل الأحوال دولة مستقلة غير تابعة لا لليونان ولا تركيا. نتائج الانتخابات وتصريحات الرئيس المنتخب أحدثت زلزالاً في تركيا، ورئيس حزب الحركة القومية الفاشي وشريك أردوغان في الحكومة كشَّرَ عن أنيابه ولم يجد وسيلة يعبر فيها عن جنونه القومي الفاشي لإدراكه أنها بداية فقدان تركيا لقبرص غير القول إن الانتخابات غير شرعية. خسارتها قبرص التي تحتلها منذ عام 1974، تُعَدُّ ضربة قاضية للمشاريع الاحتلالية التركية في المنطقة، فإن كانت قبرص غداً، فبعد غد ستلحق بها سوريا والعراق أيضاً، وليبيا وأذربيجان ودول أفريقية أخرى.
بالتأكيد ما يجري في قبرص ليس وليد الصدفة وغير معزول عن التطورات الجارية في المنطقة، فهو يأتي في سياق مخطط أعدت له الدول الغربية بكل ذكاء وحنكة سياسية، بالتشارك مع إسرائيل. فالتحضيرات العسكرية الجارية على أراضي قبرص اليونانية منذ عدة أشهر، من خلال نصب صواريخ إسرائيلية متطورة، إضافة إلى تزويدها بأحدث الطائرات بما فيها طائرات “إف – 36” التي حصلت عليها اليونان، هدفه توحيد قبرص بـ”القوة”، على غرار ما دعا ترامب إلى صنع السلام بالقوة في الشرق الأوسط، دون العودة والأخذ بالموقف التركي. وهو يعد انقلاباً على تركيا وتهميشها.
ستجد تركيا نفسها منشغلة بقبرص أكثر من انشغالها بسوريا، وستمتص جُلَّ قدراتها العسكرية والسياسية، فهي قضية مصيرية بالنسبة لها، وانتزاع الجزء الذي احتلتها منذ أكثر من نصف قرن؛ بمثابة نكسة كبيرة للسياسة الخارجية التركية ومؤشراً قوياً بالعد التنازلي لها، ويفيد بأن شمسها بدأت بالأفول.
كما أن ما يجري من تحولات سريعة على الساحة السورية، لا يصب في مصلحة تركيا بأي شكل من الأشكال. دخول اتفاق 10 مارس/ آذار بين حكومة دمشق وقوات سوريا الديمقراطية حيّز التنفيذ، يقوّض أي مسعى تركي لإشعال سوريا مجدداً. فهي حاولت مراراً في الفترة القريبة الماضية دفع حكومة دمشق للدخول في مواجهة مفتوحة مع قوات سوريا الديمقراطية، عبر ممارسة كل أشكال الضغط والإملاءات عليها، ولأسباب عديدة لم تجد دمشق في نفسها القدرة على الدخول في معركة تدرك سلفاً أنها خاسرة. فلجأت تركيا هذه المرة إلى الزج بمرتزقتها في مواجهة (قسد) وإشغالها عن معركتها الرئيسية ضد الإرهاب، وكانت آخر فصول المراهنة التركية قد تحطمت على أسوار حيي الشيخ مقصود والأشرفية في السادس من الشهر الجاري. حسابات الميدان أولاً قطعت الطريق أمام تركيا في العودة بسوريا إلى المربع العنفي، وثانياً القوى الفاعلة في سوريا، وعلى رأسها الولايات المتحدة وفرنسا وضعت الخطوط الحمراء أمامها، ولم يعد بإمكانها تحريك أذرعها في سوريا لإعادة خلط الأوراق والاصطياد بالمياه العكرة.
رغم أن تركيا تطالب علناً بضرورة عودة (قسد) لتطبيق بنود اتفاقية 10 مارس/ آذار، إلا أنها في الواقع لا تحبذ ترجمة الاتفاقية على الأرض، ودائماً تبحث عن الذرائع والحجج التي من شأنها إلغاء الاتفاقية. ولكن “الشرع” الذي وجد نفسه وحيداً ومعزولاً عربياً وإقليمياً ودولياً، نتيجة ارتباطه الوثيق بتركيا وقبوله بإملاءاتها وشروطها، وجد أنه يسير نحو الهاوية، فاضطر مرغماً للجوء إلى قوات سوريا الديمقراطية وقبول شروطها، الأمر الذي دعا رجل تركيا الأول في سوريا “الشيباني” للتوجه إليها غداة اليوم الثاني لاجتماعات قيادة شمال وشرق سوريا مع قيادات دمشق، ونقل تفاصيل التفاهمات بين “الشرع” ووفد شمال وشرق سوريا إليها.
انتشار وحدات مكافحة الإرهاب (YAT) على كامل الجغرافيا السورية، مثلما أعلن القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية “مظلوم عبدي”، مؤشر على توسيع نطاق مهامها ومسؤولياتها في مكافحة الإرهاب وأينما وجد، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى مكافحة أذرع تركيا الإرهابية في سوريا وجميع التشكيلات المتطرفة، وتحت شرعية الدولة السورية، وأيضاً بغطاء من التحالف الدولي، وهو ما تخشاه تركيا. فهي تدرك جيداً أن (قسد) بهذه الطريقة تكتسب الشرعية الكاملة ولا يمكنها بأي حال من الأحوال مواجهتها، بل على العكس، ستعمل (قسد) على تحرير المناطق التي تحتلها تركيا، بدءاً من إدلب، عفرين، مروراً بإعزاز، الباب، جرابلس، وانتهاء بسري كانيه/ رأس العين وكري سبي، ولن تستطيع تركيا منع (قسد) ومعها الجيش السوري الجديد الذي سيتشكل وفق إرادة وطنية، وبدعم إقليمي ودولي، من القيام بهذا الدور الوطني.
اندماج قوات سوريا الديمقراطية سيقلب كل موازين القوى في سوريا، ولن تكون تركيا بمنأى عنها، فمثلما أن المعركة الأولى ستكون اجتثاث الإرهاب من كل الجغرافيا وتجفيف بؤره وحواضنه المادية والمعنوية؛ فإن المطالبة الشعبية السورية، وكذلك الرغبة الإقليمية والدولية ستكون إخراج تركيا من سوريا، على غرار خروج إيران بكل من سوريا خلال ليلة وضحاها. فإن كانت حكومة دمشق لا تجد في نفسها القدرة على الحد من النفوذ التركي في سوريا؛ فإن مجرد اندماج (قسد) إليها سيقوّي عضدها، لتمتلك الجرأة في المطالبة بخروج تركيا من الأراضي السورية سلمياً، بعد أن يتم تجريدها من كل أوراق قوتها في سوريا، وخاصة حل أذرعها وميليشياتها الإرهابية ضمن الجيش، وتجريدهم من كل أسباب القوة التي يمتلكونها، لتجد تركيا نفسها معزولة في سوريا وتضطر في النهاية إنهاء احتلالها والخروج من أراضيها “بطيب خاطر”.
يجب التفكير بشكل صحيح وصائب بأن انخراط (قسد) في المؤسسة العسكرية وبذلها الجهود لإنهاء حالة الفوضى وقطع دابر الإرهاب، يلقى بقبول جميع السوريين، وحتى على مستوى النخب السياسية والعسكرية والثقافية والمجتمعية، وسيعيد ترتيب الدولة السورية ومؤسساتها، وينزع عنها كل صفات الإرهاب والتوجهات المذهبية والطائفية الشاذة، كما يبدد حلم من كان يراهن على تحويل سوريا إلى مرتع ومنبع للإرهاب وإلى دولة دينية متطرفة تنشر الإرهاب في الأطراف والعالم.




