أخبار

انتخابات “مجلس للشعب” أم “مجلس شورى طائفي”؟

محمود علي
يدور جدل كبير بين السوريين حول ما تسمى “انتخابات مجلس الشعب”، في ظل تغييب ممنهج للقوى السياسية ومكونات عديدة، ما ينسف كل مشروعية لها، خاصة إذا ما أُخذت بعين الاعتبار حالة الانقسام السياسي السائدة، والتحديات الداخلية والخارجية، وغياب الأمن وسيادة فوضى السلاح، والقتل العشوائي “المجهول” في معظم المناطق، ما يجعل خوض أي انتخابات نوعاً من العبث وهدراً للوقت، يُراد منها فرض “شرعية” مزيّفة لا معنى لها، ونتائجها ستنعكس سلباً على الواقع السوري المُثقل بالأزمات، وستزيد من حجم الشروخ السياسية والمجتمعية السائدة، وتكرّس لأحادية مفرطة تفتح المجال أمام استبداد وديكتاتورية قوموية – دينية لا مثيل لها إلا في تركيا.
إصرار الحكومة المؤقتة على إجراء الانتخابات في هذه الأجواء المشحونة بالانفجار، وإقصاء محافظات منها، دفع معظم مكونات الشعب السوري في مناطق عديدة إلى رفضها وعدم الاعتراف بنتائجها، كما أعاد إلى الأذهان تكرار سيناريوهات النظام السابق. ففي حين كان السوريون يترقبون إجراء انتخابات حرة ونزيهة تعبّر عن إرادتهم، وتنتج مجلساً/ برلماناً يكون قادراً على تجاوز أزمة بلادهم – والتي هي أزمة سياسية بالدرجة الأولى – فإنها لا تختلف من حيث الأهداف والآليات عن انتخابات النظام البائد، إن كان من جهة تعيين المرشحين الموالين للسلطة وطريقة “انتقائهم” بما يتوافق مع توجهات النظام، أو في استبعاد مناطق بأكملها عن العملية الانتخابية، وفرض شخصيات لا تمثل تلك المناطق لا من قريب ولا من بعيد، والادعاء بأنها تمثل سكانها. وقبل هذا وذاك المبدأ تدور إشكالية حول والفكرة الأساسية التي وضعتها لإجراء الانتخابات، فعدا عن ترشيح أشخاص موالين لها؛ فقد احتفظ الرئيس بحق “تعيين” ثلث أعضاء المجلس، وهو ما ينسف أي مشروعية للمجلس، حيث سيحتفظ بكتلته الموالية له، ليمرر عن طريقها كل القوانين والتشريعات التي يفكر بفرضها على رقاب السوريين، وهذه بحد ذاتها تشكل مصادرة لإرادة وحقوق السوريين وانقلاباً عليها.
والمسألة الأهم، والتي ستكون الشرارة التي ستقوض مشروعية الانتخابات ومعه مشروعية النظام، أن مناطق شمال وشرق سوريا، ومناطق عديدة في الساحل السوري، وكذلك السويداء، قد رفضت بشكل مطلق هذه الانتخابات، واعتبرتها “صورية” لن تُفضِيَ إلا إلى فرض حالة من الانقسام السياسي العميق، الذي قد يجر معه نحو تهديد الوحدة الوطنية السورية، تكون السلطة الحالية سهّلت لها من خلال سلوكها الإقصائي – العدائي تجاه مكونات تلك المناطق، وخاصة الكرد، العلويين والدروز، رغم عدم رغبة هؤلاء بالوصول إلى تلك الحالة، ولكن النظام الحالي يدفع نحو تفكير كل منطقة بمصيرها، عبر البحث عن طرق وآليات تحفظ فيها وجودها، وتعبر من خلالها عن إرادتها الحرة، في ظل تهديدات النظام المتواصلة عليها، حيث أن ممارساته في الفترة السابقة زادت من يقينها بأنه لا يمكن التوافق مع هكذا نظام ثيوقراطي – أوليغارشي يسعى إلى تعويم نفسه خارجياً دون التوافق مع شعبه وقواه السياسية.
إن الأزمات المفتعلة من قبل سلطة الأمر الواقع الحالية، تُفيد بعدم إمكانية تحولها من حالة قيادتها لميليشيات معينة متطرفة، إلى قيادة دولة ومؤسسات لها قوانين وتشريعات ناظمة. ورغم استعانته بعدد من أركان النظام السابق ورجالاته، وتعيينهم في عدد من الإدارات الهامة، إلا أنها وضعتهم ضمن رقابة صارمة، وأعادت إنتاج أفكار وقيم وسلوكيات النظام البائد في التعامل مع مختلف القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإدارية، بل ما يزال النظام الحالي يسعى لاستنساخ تجربة البعث في الانتخابات والتعامل الأمني مع الناس، وكذلك في تشكيل حكومة الظل الموازية، التي تضع يدها على قرار البلاد وكل مقدراتها السياسية والاقتصادية، بالتوازي مع رضوخه لإملاءات وشروط الخارج، وتشدده في إغلاق باب أي حوار وطني جدي مع شعبه وممثليه الحقيقيين، وفي مقدمتها الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، وأقله وقف عمليات القتل والاختطاف الممنهجة من قبل العصابات الخفية – العلنية التابعة له والتي تعمل بأوامر مباشرة منه. فكيف يمكن أن يشارك الشعب السوري في انتخابات برلمانية فيما قطعان الإرهابيين تجوب الأحياء والقرى في كل المناطق، تقتل وتختطف من تشاء دون أي رقيب أو حسيب. المجزرة التي اُرتكبت في وادي النصارى بريف حمص الغربي، ما تزال تتفاعل داخلياً وخارجياً، وارتداداتها على النظام ستكون أكبر مما يتصورها، ولن يتمكن من احتوائها وطيها كباقي الانتهاكات الأخرى، ولن تمر بشكل عابر، خصوصاً بعد أن غدا كل من يخالفها الرأي هدفاً لها.
يتوهم النظام الحالي أنه امتلك المشروعية من الخارج، ويعتقد أنه من خلالها سيحافظ على ديمومته، وفي تجربة النظام السابق خير دليل أن المشروعية تأتي من الداخل وليس من الخارج، وفي أي لحظة تسحب القوى الخارجية يدها عنه، يمكن أن يلقى مصير نظام البعث، خاصة أنه لم يتمكن بعد من توطيد أركانه في ظل التوترات في معظم المناطق السورية، وما يقدمه إعلامه من بروباغاندا وصورة منمقة، ما هو إلا تزييف للوقائع على الأرض.
ما معنى هذه الانتخابات في ظل وجود قوات احتلال تركية وإسرائيلية على الجغرافيا السورية، وما هي النتيجة المرجوة منها، والتي قطعت أواصر التواصل بين السوريين، ونشرت ذاك الكم الهائل من الحقد والكراهية؟
لقد أثبتت التجربة أن أي نظام يسعى لإدارة الدولة عن طريق الدين، لن ينتج نظاماً عادلاً وديمقراطياً، فذهنية النظام الحالي لا تتجاوز ذهنية الانغلاق الديني، ولا يفكر أبعد من إنتاج “مجلس شورى طائفي” لا يعبر حتى عن إرادة الطائفة والمذهب التي يدّعي تمثيله لها، فهو في قرارة نفسه لا يؤمن بالانتخابات، كما أعلن منذ سنوات أن “الديمقراطية كفر”، فكيف به أن يقبل بانتخابات حرة ونزيهة، والتي تعتمد – أي الانتخابات – في أساسها على الديمقراطية بشكل رئيسي. فهو إما يخادع شعبه ونفسه، أو أنه يتجاهله، وفي كلتا الحالتين هو غير مؤمن أصلاً بفكرة الانتخابات، ولا هي من صلب تفكيره وذهنيته القرووسطية، حيث أنه لم يخلع عن نفسه عباءته الدينية، بل أقحم الدين في كل مفاصل الحياة، وجعله يقيس كل شيء وفقاً له، دون الأخذ بالكم الهائل من المتغيرات والتحولات التي جرت وتجري في العالم، ولا يأبه بها مطلقاً.
لن يغدو أي مجلس ينبثق عما تسمى “انتخابات مجلس الشعب” سوى مجلساً “للكركوزات” التي خبرها السوريون جيداً، ولن يخرج من إطار دمى تتحرك بإرادة ومشيئة النظام، وكل من لا يتوافق معه، تستطيع التخلص منه برمشة عين، وهي ضليعة في تصفية خصومها بكل سلاسة ودون عناء. من جانب آخر؛ أشركت في تشكيلة مجلسها “العتيد” عدداً من بطانتها الجديدة الصاعدين في عالم المال والأعمال، لتزيد من عملية النهب المنظمة لمقدرات الشعب السوري وتشرعنها، هذا فيما يلاحظ كثرة مشاركة المتطرفين الدينيين أصحاب اللحى كمرشحين في الانتخابات، فهو يسعى إلى تشكيل “كتلة ضامنة” له للسيطرة على المجلس وفرض طابعه الديني والمذهبي عليه، ولا شيء سواه.
سيعتبر السوريون وكأن الانتخابات لم تُجرَ، فهم يُعِدّونَ أنفسهم غير معنيين بها، ولن يكون إقبال عليه بالشكل الذي تتوهمه السلطة، بل ستحجم الغالبية عن المشاركة وتلتزم الصمت، ولن تشهد ذاك التهافت. بالمقابل ستعمل الآلة الإعلامية على تضخيمها والإيحاء بأنها أول انتخابات ديمقراطية تشهدها البلاد، فيما لا يعوّل أحد عليها في إنجاز أي مكسب وطني وديمقراطي، فالسياقات التي فُرِضت فيها الانتخابات، أقل ما يُقال عنها أنها “لا وطنية”، بالتالي لن تغيّر في الأوضاع شيئاً غير السير نحو تفكك البلاد، والدخول في نفق مجهول.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى