لماذا يماطل أردوغان في عملية السلام الكردية؟

محمد جهادي/ وكالة روج نيوز
مرّ أكثر من شهرين على الخطوة غير المسبوقة التي أقدم عليها حزب العمال الكردستاني في تموز الماضي، حين أضرم النار في سلاحه معلناً الدخول في مسار جديد يضع السلام والعمل السياسي الديمقراطي في مقدّمة خياراته.
كانت تلك الخطوة انعكاسًا لحالة جدّية اتخذها الحزب استجابةً لنداء القائد عبد الله أوجلان التاريخي، الذي شدّد فيه على “تحمّل المسؤولية كاملة” غير أن تركيا لم تُبدِ حتى الآن أي مؤشرات جديّة تجاه هذا التحوّل، بل تعاملت معه ببرود يكاد يُنكر حجم اللحظة وما تنطوي عليه من فرص تاريخية.
في هذا السياق، يجري وفد من حزب المساواة وديمقراطية الشعوب، يضم البرلمانية بروين بولدان، والنائب مدحت سنجار، والمحامي فائق أوزغور، مشاورات لمتابعة عملية السلام، في إطار دوره كحلقة وصل بين القائد أوجلان والحكومة التركية لكّن هذه المشاورات تبدو بطيئة ومحدودة التأثير بما يطرح تساؤلات حول جدّية أنقرة واستعدادها الفعلي لالتقاط اللحظة.
تتزامن هذه التطورات مع مشهد إقليمي ملتهب، حرب دامية في قطاع غزة بفعل الضربات الإسرائيلية، توتّر متصاعد في لبنان واليمن وسوريا، ثم مواجهة غير مسبوقة امتدت لاثني عشر يومًا بين إيران وإسرائيل، بما أعاد طرح سؤال جوهري: هل ستتمكّن تركيا من النجاة من طوفان هذه الأحداث أم ستجد نفسها في قلب العاصفة؟
اختبار صعب
يعد توقيت مبادرة القائد عبدالله أوجلان بالغ الرمزية؛ إذ أراد أن يضع الدولة التركية أمام استحقاق تاريخي: الانتقال من منطق القوة العسكرية إلى منطق السياسة والحوار لكنه في الوقت نفسه وضع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمام اختبار صعب، إذ لم يعد بوسعه الاكتفاء بسياسات المماطلة التي خبرها الكرد على مدى عقود.
ونتوقف هُنا عند مفهوم “الدولة غير المعيارية” (Norm Dışı Devlet) ) الذي أشار إليه القائد عبد الله أوجلان، هو توصيف سياسي نقدي للدولة حين تفقد التزامها بالقواعد الطبيعية والوظائف الدستورية التي تقوم عليها أي دولة حديثة.
ووفق رؤية القائد فإن الدولة التركية الحالية لا تعمل في إطار لخدمة المجتمع، بل تتحرك وفق مصالح النخبة الحاكمة (تحالف بين البيروقراطية، الجيش، ورجال الأعمال المرتبطين بالسلطة) وهذه النخبة ترى تركيا كدولة قومية أحادية (تركية فقط)، وتتعامل مع التعددية (الكرد، العلويون، الأرمن…) كتهديد يجب السيطرة عليه.
إذاً، حين يتحدث القائد عن “الدولة غير المعيارية”، فهو يصف الوجه الخفي–الأمني الذي يسيّر تركيا، بغض النظر عمّن يجلس في البرلمان أو الحكومة، هذه الدولة لا تُقاس بـ”شكلها الدستوري” بل بـ”وظيفتها الفعلية” وهي الحفاظ على السلطة عبر القمع، وليس بناء عقد اجتماعي ديمقراطي.
فالسؤال اليوم: لماذا تسير عملية السلام ببطء رغم مرور أكثر من شهرين على انطلاقها؟
الإجابة تكمن في حسابات أردوغان الداخلية والخارجية. داخليًا، يواجه أزمة اقتصادية خانقة ومعارضة سياسية شرسة، فيما يسعى لإعادة صياغة الدستور التركي الذي يرى أنه “باليًا” لكونه نتاج انقلاب 1980، رغم تعديله أكثر من مرة. المشروع الدستوري الجديد ـ إن تحقق ـ سيفتح الباب أمام أردوغان للترشح مجددًا رغم أن الدستور الحالي لا يسمح بذلك، وهو ما يثير رفضًا واسعًا، وفي مقدمته رفض حزب المساواة وديمقراطية الشعوب، ثالث أكبر قوة برلمانية في البلاد.
مأزقان داخلي وخارجي
كما في الداخل، يواجه أردوغان خصومة متصاعدة مع حزب الشعب الجمهوري، وصلت إلى حد اعتقال أعضائه ونزول أنصاره إلى الشارع احتجاجاً على سياسات النظام. أضف إلى ذلك إلى تورطه في المستنقع السوري بحثاً عن موطئ قدم دائم، لكن من دون غطاء دولي كافٍ حيث أن إسرائيل من جهتها لم تُخف رفضها لأي تمدد تركي، وهو ما ظهر جلياً في استهدافها مواقع عدة حاولت القوات التركية التمركز فيها، لتبعث برسالة واضحة مفادها أن المجال الإقليمي ليس مفتوحاً أمام طموحات أنقرة.
وبذلك، يمكن القول إن عملية السلام، بدل أن تمنح أردوغان فرصة لتعزيز شرعيته داخليًا وخارجيًا، تحوّلت إلى مأزق سياسي يزيد من انكشافه أمام معارضة الداخل وتحديات الخارج. فلا المماطلة تنقذه، ولا الاستفزازات العسكرية قادرة على تغطية المأزق الحقيقي الذي يواجهه النظام التركي في لحظة إقليمية فارقة.
وبهذا المشهد المأزوم، يقف أردوغان بين فكي كماشة، أزمة داخلية مع المعارضة والاقتصاد، وأزمة خارجية مع الجوار الإقليمي والمجتمع الدولي، لا الداخل قادر على إنقاذه، ولا الخارج مستعد لمنحه فرصة جديدة كما أن وسط هذه الاضطرابات والفوضى التي تضرب المنطقة، هل ستتغير خارطة الاصطفافات ويصبح صديق اليوم عدواً، وعدو الأمس صديقاً؟