مهزلة العقل البشري والانتخابات السورية

دوزدار غريب
المفكر علي الوردي في كتابه المعنون “مهزلة العقل البشري” يلفت النظر إلى العقل الإنساني ويقول:
“العقل قادر أن يخدعنا ويجعلنا نؤمن بأن ما نرغب فيه هو الحقيقة ذاتها”.
في عقل الجهاديين السلفيين، هناك مسار ملتوي يقوم على التناقض بين الفهم الأصيل للإسلام والجهاد المسلح، وبين ما تفرضه الدولة الحديثة. وهذا التناقض يجعل أصحاب هذا الذهن مهما بلغوا من سلطة ونفوذ؛ غير قادرين على مغادرة أفكارهم الجهادية، السلفية والوهابية. فالجهاد السلفي يحمل في داخله نوعاً من الحنين إلى الحداثة، لكنه في الوقت نفسه يقوم على فهم يختزل الخارج في العنف والسلاح، ولا يسمح بأي وسيلة أخرى لتحقيق أفكاره داخل المجتمع. هذا ما يسميه علي الوردي بـ”مهزلة العقل البشري”.
أصحاب هذا الذهن اليوم في سوريا هم المسيطرون، ويستعدون لإجراء الانتخابات. ففي الأسبوع الماضي أعلن أحمد الشرع، رئيس ما يسمى الحكومة الانتقالية، في بيان رسمي أن: “النظام المؤقت للانتخابات من أجل مجلس الشعب قد أُقر، وتم تحديد يوم 15 أيلول موعداً للانتخابات. هذه مرحلة مهمة يجب أن ترافقها إصلاحات سياسية”.
مجلس الشعب، أي البرلمان السوري وفق قرار ما يسمى رئيس جمهورية سوريا، يتألف من 210 نواب. هؤلاء النواب الـ210 يتم اختيار ثلاثة أرباعهم من قِبل حكومة الإنقاذ التابعة للجولاني، والربع المتبقي من قِبل اللجان المحلية التابعة للجنة الانتخابات السورية. كما أن هذه المقاعد الـ210 موزعة على 14 محافظة سورية. لكن في توزيع المقاعد يطغى العقل الجهادي السلفي. فالبرلمان لا يقوم على أساس الحاجة المجتمعية أو التمثيل الحقيقي، بل على أساس فكر الإخوان المسلمين والجهاديين السلفيين، أي بالطريقة التي تعتمدها هيئة تحرير الشام. لذلك لا يمكن تسميتها “انتخابات سورية”، بل فقط “تجمع موظفين”.
هذا يعني أن سوريا والمجتمع السوري تخلّص هذه المرة من ارتباطه بالأسد، لكنه ارتبط مباشرة بالجولاني. صحيح أنه في عهد بشار الأسد لم تكن هناك ديمقراطية، لكن على الأقل كان هناك اسم للديمقراطية على الألسنة. كان هناك برلمان وانتخابات ولو شكلياً. أي أن “الديمقراطية الصورية للنظام السوري” كانت على طريقتها الخاصة، وتُمارس باسم الديمقراطية.
أما أحمد الشرع، فقد فهم الديمقراطية على طريقته، وكل يوم يخرج بقرارات وتصريحات رسمية تُعرض على الرأي العام. لكن مقدار ما تحمله هذه الديمقراطية من جدية هو أمر للنقاش والجدل. فكما أن البعثيين الشوفينيين استغلوا اسم الديمقراطية لتوريث سلطتهم، كذلك حكومة الهيئة والشرع بعقلهم الجهادي السلفي لن يستطيعوا بناء الديمقراطية. أصحاب ذهنية “الدولة الواحدة، الأمة الواحدة، واللغة الواحدة”، حتى لو أسسوا برلماناً ونظاماً سياسياً، فلن يتمكنوا من قيادة أنفسهم بأنفسهم.
لم يتغير شيء في سوريا جوهرياً: حزب البعث ذهب، وجاءت هيئة تحرير الشام. الأسد رحل، لكن الجولاني حل مكانه. وكما قال القائد آبو (عبد الله أوجلان):
“البعثيون اليساريون ذهبوا، وحل محلهم بعثيون يمينيون”.
لكن من المحزن أن ما فعله بشار الأسد يحاول أحمد الشرع اليوم إعادة إنتاجه بعقل مبرمج ومؤدلج لحماية نظامه الأحادي. وهذا أمر غير ممكن. فبسبب هذه المسارات الخاطئة، تحطمت حصونهم واحداً تلو الآخر، واندثرت على صفحات التاريخ. والأهم هو أن التجربة التاريخية أظهرت ذلك بوضوح.