مانشيتمقالات رأي

دمشق والمراهنة على العشائر

محمود علي

ماتزال حكومة دمشق تواصل استفزازاتها وحربها الإعلامية التحريضية ضد الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، وبدعم مكشوف من دولة الاحتلال التركي، بهدف النيل من مواقفها، وزعزعة أمن واستقرار مناطقها، ودفع الأمور نحو مزيد من التوتر، حتى وصل ببعض الأطراف الموالية للحكومة الحالية إلى التهديد بشن عدوان على مناطق الإدارة، وإعادة سيناريوهات مناطق الساحل والسويداء إلى الواجهة.

حشد حكومة دمشق قواتها عند نقاط التماس مع قوات سوريا الديمقراطية في كل من دير الزور ودير حافر، وكذلك في محيط حيي الشيخ مقصود والأشرفية قبل أيام، يشير إلى نواياها المبيّتة في شن العدوان، رغم قناعة الجميع أنها ستكون معركة خاسرة بكل تفاصيلها ونتائجها – هذا في حال بدأت بالهجوم، ولكن لن يحدث مطلقاً – وستنعكس المعركة سلباً على الحكومة نفسها قبل الآخرين، وستدفع أكلافاً باهظة لا تُقارن مطلقاً بما دفعته في الساحل أو السويداء، ليس على الصعيد العسكري فقط، بل أكثر منها على الصعيد السياسي. وستقلب كل موازين القوى والمعادلات السياسية الموجودة في سوريا رأساً على عقب، وتضع “شرعيتها”، المنقوصة أصلاً، في مهب الريح، وتفقد كل ما حققته من “إنجازات” (إن وُجِدَتْ)، لتغدو جماعة مارقة على الدولة والمجتمع، وحينها لن ينفعها اللجوء إلى طرق ملتوية في تبرير عدائها للمجتمع السوري بكل أطيافه ومكوناته، عبر رفع الشعارات الدينية والطائفية والمذهبية، كلها ستسقط في أوحال أي حرب تشنها على مناطق الإدارة الذاتية. فإن كانت تتوهم أنها ستبدأ الحرب بسهولة، إلا أنها لن تتمكن من إنهائها وفق تصوراتها وتخيلاتها المريضة.

مرة أخرى تعمل حكومة دمشق على اللعب بورقة العشائر الخاسرة، والزج بها في معاركها العبثية هنا وهناك، مثلما استخدمتها في هجومها على السويداء، حيث تحاول استقطاب بعض الشخصيات العشائرية المنبوذة ضمن عشائرها، والفاقدة لقيم العشيرة وأصالتها وفي أفضل الأحوال لا تمثل إلا نفسها، وتقديمها على أنها تمثل كامل العشيرة، واعتمادها خطاباً ساذجاً ومبتذلاً، حتى يخرج أحياناً عن حدود اللباقة والأدب والاحترام لقيم العشيرة المتعارف عليها في الأوساط السورية، وإثارة مشاعر البسطاء، مع تقديم كل الإغراءات المادية والشخصية، بدعم وتمويل فاضح من تركيا وبعض دول الخليج العربي، التي تعمل ليلاً نهاراً على تفتيت سوريا، وإثارة النزعات الطائفية والمذهبية فيها.

مثلما فشل النظام السوري البائد في استخدام العشائر في صراعاته الداخلية ضد شعبه، كان أولها في انتفاضة قامشلو ضد الشعب الكردي المنتفض ضده كنظام، وكذلك في الحرب الأخيرة، حيث أقحم بعض العشائر من خلال رؤسائها في حروب عبثية داخلية ضد مكونات سورية، وحاول إلحاق بعضها بإيران وفرض “التشيع” عليها، كما في حالة “نواف راغب البشير”، وكذلك “إبراهيم الهفل”، وانقلابهم حتى على عشائرهم والوقوف في الضفة المعادية لها. كذلك الحكومة الحالية لن تحقق أي نجاح في تأليب العشائر ضد بعضها، أو ضد مكونات عرقية وإثنية أخرى، وزرع حالة من العِداء بينها، وتعويلها على إراقة الدماء، خاصة أن أحد أسباب تماسك العشائر واستمراريتها يعتمد على عنصر الدم، وهو ما يدفعها دائماً للانتقام لدماء أبنائها، وهذا ما تعوّل عليه حكومة دمشق، عبر إشاعة مفهوم وظاهرة الانتقام بين بعض العشائر، لتغدو ثقافة يومية تحيا عليها العشائر، ومن خلالها تحافظ ديمومتها.

دولة الاحتلال التركي حاولت – وما تزال – الاستثمار في العشائر وتحويلها إلى أداة بيدها تحارب بها خصومها المفترضين داخل سوريا، فشكلت لهم عدة كيانات وهمية، وخلقت عشائر من العدم، ومثالها الصارخ كان في عفرين، ومن المعلوم أنها – أي عفرين – تجاوزت البنية العشائرية منذ أمد بعيد، رغم وجود أسماء العشائر، إلا أن لا أحد من أبناء عفرين يعتز ويفتخر بها، وأصبحت جزءاً من الماضي، رغم ذلك فشل الاحتلال في تكوين جسم عشائري من كرد عفرين وبعض مناطق الشهباء. وادعى عبر إعلامه تشكيل ما أطلق عليه اسم “جيش العشائر” في محاربة الكرد وقوات سوريا الديمقراطية، إلا أن تلك الفكرة ولدت ميتة ولم تحقق تركيا من ورائها أياً من أهدافها.

إلهاب المشاعر والاعتماد على الأسلوب الشعبوي في إثارة العشائر، وتطعيمها بالشعارات الدينية والقوموية أثبت عقمه وعدم جدواه، خصوصاً أمام الذهنية الجمعية التي شكلتها الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، وتعتمد عليها في استمراريتها. تلك الذهنية تمكنت إلى حد بعيد من تكوين ثقافة عيش مشتركة بين جميع مكونات شمال وشرق سوريا، ومواجهة كل التحديات. فالحكومة السورية وذهنيتها المتحجرة غير قادرة على خوض أي صراع حضاري مع الإدارة الذاتية، لافتقارها إلى الأدوات الحضارية في إدارة الصراع، وأثبتت خلال الأشهر الماضية تخلفها الفكري والثقافي، واستنادها إلى بنية اجتماعية رثَّة أقرب إلى الرعاع، بل ضربت البنية الاجتماعية والثقافية التي كانت موجودة، عبر تفكيك المجتمع ووضعه في حالة ندية حتى مع نفسه، ولم تولِ أي أهمية للأصوات المنادية بإعادة ترميم النسيج المجتمعي السوري الممزّق بفعل الحرب، على النقيض من ذلك، عمقت الشروخ المجتمعية، خاصة من خلال الدين والطائفة والمذهب والعشيرة.

إن كانت العشيرة تُعرف عبر التاريخ كمصدر أولي لتكوين أول كيان مجتمعي في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، وعنصراً هاماً في تكوين الوحدة الوطنية في البلدان، وحافظت على وحدتها الداخلية المبنية على الانتماء والدم؛ فإنها دون شك ساهمت في تعزيز أواصر الوحدة الوطنية، حيث لها تاريخ حافل ومشرّف بحمل أعباء التحرر الوطني ومقارعة الاستعمار، خاصة في سوريا إبان الاحتلالين العثماني والفرنسي، والتاريخ القريب لسوريا يشهد على تلك المواقف الوطنية للعشائر السورية بكل تنويعاتها وأسمائها. إنه من المؤسف أن تجد العشيرة نفسها في الموقع المضاد لتاريخها ووجودها، وتلعب دوراً سلبياً في هذا التوقيت الحرج من تاريخ سوريا، وهي بكل الأحوال لا تقبل أن تكون مادة للمزايدات والمساومات السياسية بين الحكومة وخصومها السياسيين في الداخل، وعليها أن تنأى بنفسها من هذا الصراع، وتحافظ على توازنها، لتغدو إحدى مقومات الوحدة الوطنية، وتنتهج خطاباً معتدلاً، لا تحريضياً، لتلتف حولها جميع مكونات سوريا، وتتجاوز الحكومة الحالية في بُعدها الوطني والديني والسياسي أيضاً.

الاجتماع الذي عقده قائد قوات سوريا الديمقراطية في مدينة الرقة قبل عدة أيام، يعد مفصلياً وهاماً، لجهة وضع العشيرة في مكانها الصحيح ضمن المشهد السوري المتقلب، وتمكن “عبدي” مع أعيان الرقة من إعادة تفعيل الخطاب المعتدل، وإعادة الروح السمحة للعشيرة والمتآلفة مع مختلف الأطراف السياسية، والتركيز على دور العشيرة في مرحلة بناء سوريا، وليس في تعميق الانقسامات، واعتمادها خطاباً جامعاً عابراً للأديان والقوميات والطوائف، إلى جانب الحفاظ على المكتسبات التي حققتها بدماء أبنائها، خاصة في معركتها مع تنظيم “داعش” الإرهابي.

كما أن اجتماع وفد من قوات التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب مع شيوخ ووجهاء عشائر الرقة بعد اجتماع “عبدي” معهم، يعد هو الآخر تأكيداً على ما تحدث به “عبدي” في الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، كما وضع الوفد خطوطاً حمراء أمام ممثلي العشائر، بعدم الانزلاق إلى متاهة الحرب مع حكومة دمشق، وضرورة التمسك بالإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، كسبيل وحيد لإنقاذ مناطقهم وسوريا عموماً من أتون الحرب الدائرة، وأن (قسد) والإدارة هما الضمان الأول والأخير للحفاظ على أمن واستقرار المنطقة. الاجتماع بحد ذاته أرسل رسائل بكل الاتجاهات، وأولها لدمشق ودولة الاحتلال التركي.

الثابت في الأمر أن دمشق ومعها حلفاؤها، وخصوصاً تركيا تلعب على عامل الوقت، وتحاول استنزاف قدرات الإدارة الذاتية، وامتحان قوات سوريا الديمقراطية، وإضعافها، وليس محاربتها، فلا قدرة لهما على خوض أي حرب، فقط هي تسعى إلى الحصول على تنازلات من الإدارة الذاتية عندما تنعقد طاولة الحوار والمفاوضات، ولن تقدم دمسق إلى فتح أي صراع جديد على نفسها، طالما أنه وُضِعَتْ لها محدّدات وخطوط إقليمية ودولية لا يمكنها تجاوزها مهما تزايدت عليها الضغوط التركية، ولن تغدو سوريا مجدداً ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، والاتجاه العام يشير إلى استئناف الحوار والمفاوضات بين دمشق والإدارة الذاتية، كما أشار إليه “الشرع” في آخر لقاء له، وعلى جميع المطبلين والمزمرين الكف عن اللعب في المياه العكرة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى