قراءة في مسار الحرب الأخيرة بين إسرائيل وإيران

كمال حسين
بعد حرب شنتها إسرائيل على إيران، استمرت اثني عشر يوماً، تدخلت فيها الولايات المتحدة في التوقيت المتفق عليه، وحينما دعت الحاجة إلى مجهوداتها. وكان للرئيس الأمريكي ترامب القرار الفصل في توقيت إيقافها على إيقاع إعلان صريح منه إنها قد حققت أهدافها، وقد نجحت في تدمير وإجهاض البرنامج النووي الايراني عبر قصف ثلاث منشآت أساسية، وبعد أن كان سلاح الجو الأمريكي بإمكانياته الفائقة على اختراق وتدمير المواقع المحصنة، ومعززاً بمشاركة طائرة الشبح؛ قد شارك في فصلها الأخير.
هي حرب أشعلها على روزنامته رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وأوقفها على طرقه الملتبسة الرئيس ترامب. حرب ورغم ما أحاط بها من لبس حول مجرياتها وعناصر المفاجأة فيها؛ غلبت موازين هذا الطرف أو ذاك، فقد كان من نتائج دقائقها الأولى المحققة مقتل النسق الأول في قيادة الجيش والأمن والحرس الثوري، كان من بينهم وزير الدفاع، ورئيس الأركان، وقائد الحرس الثوري، وقائد فيلق القدس، ومستشار هيئة تشخيص مصلحة النظام، ولفيف مهم من قادة الدفاع الجوي.
كانت قد نجحت الاختراقات الإسرائيلية، واستخدامات الذكاء الاصطناعي باستدراجهم إلى اجتماع ثم استهدافهم فيه، بالإضافة للعديد من الكوادر العلمية العاملة على تطوير الأبحاث المتصلة بالبرنامج النووي الإيراني. ليس هذا وحسب بل أرادها نتنياهو محطة جديدة نحو تشكيل الشرق الأوسط الجديد.
وفي التفاصيل اليومية للحرب، برزت معطيات ومؤشرات دالة عديدة لا يمكن تجاهلها، ولا يمكن تناولها بمعزل عن سلسلة المواجهات التي سبقتها مع أطراف المحور الإيراني وأذرعه؛ بدءاً بحرب غزة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2023 مروراً بتطورات الحرب مع حزب الله، والتي قوضت مكانته ودوره بعد زلزال الخسائر التي أصابت قيادته وكوادره وسلاحه، وانتهاءً بركلة الترجيح والتي تمثلت بإسقاط نظام بشار الأسد.
ففي كل هذه المواجهات والمحطات، وما رافقها من اغتيالات لشخصيات إيرانية وأخرى محسوبة عليها داخل إيران وخارجها؛ لم تظهر إيران أي علامة من علامات الندية مع دولة إسرائيل؛ في الوقت الذي سجلت فيه الأخيرة تفوقاً ورجحاناً للكفة، وقدرة فائقة على اختراق الخصم، وإجهاض دفاعاته وخططه ومجتمعاته، بمعنى من المعاني؛ إن الحرب الأخيرة كانت مقدمات نتائجها قد رسمت وقُرِأت في مناخ الحروب آنفة الذكر.
يحضر هذا الاستنتاج بقوة، أو يحتفظ بأهميته في مناخ تكاثف فيه مؤخراً الضخ الإعلامي الذي انشغل بذر الرماد في العيون، وبتصوير إيران على أنها مارد جديد يخبئ الكثير من المفاجآت المذهلة، وبأنها أصابت إسرائيل، وقد اخترقت صواريخها الدقيقة نظام القبة الحديدية الإسرائيلي، وأحدثت هلعاً غير مسبوق، وهجرة معاكسة من إسرائيل، كما ذهبت بعض الصفحات والمواقع إلى حد الحديث عن مقتل هذا المسؤول الاسرائيلي أو هذا الإعلامي أو ذاك، وعن بروز جبهة إقليمية إسلامية وأخرى عالمية مساندة لإيران، وبأن دولة باكستان الإسلامية والنووية توشك على أن تنخرط في الحرب، وحتى الصين وروسيا وكوريا الشمالية قد دخلوا في طور تمارين التحمية والتشمير عن السواعد. فعند هذا الانطباع الرغبوي، والذي ساد في أوساط الكثير من المثقفين في منطقتنا؛ للأسف يجب الاعتراف بأنه انطباع غالب، وكثيراً ما تكرر حصوله أثناء الحروب العربية الإسرائيلية، وتكرر مثله في حروب صدام حسين، وفي حروب حزب الله، وفي يوميات الحرب على غزة. حيث يتكرر الدفع بجملة خاطئة متجذرة بعقول الكثيرين، مفادها إن الإسرائيلي لا يقاتل، وسيهرب إلى البلد الذي جاء منه عند أول مواجهة حقيقية.
يتناسى المثقف العربي والإسلامي؛ الذي تشكل عقله، وترسخت ثقافته في جو الضجيج القومي العربي والعقائدي الإسلامي؛ إن دولة إسرائيل قوية، والمجتمع الإسرائيلي متماسك، وبأن الدول العربية والإسلامية ومجتمعاتها ضعيفة، وسهلة الاختراق، لسبب واضح وجلي؛ هو أن الدولة في إسرائيل دولة ديمقراطية، ودولة مواطنة، ويستطيع أي مواطن فيها أن يقاضي رئيس الحكومة عند حصول أي خلل، ويجب الاعتراف بأن لا أحد فيها فوق القانون، وهنا يكمن سر القوة فيها، حينما يجري تصنيفها بأنها الأسرع في العالم على جمع جيشها الاحتياطي، فيما أن المواطن في ظل الدولة الإسلامية في إيران، أو العربية في سوريا، أو غير مكان، يعدم في أتون الحرب؛ لأنه من القومية الكردية، ويطالب بحقوقه الثقافية، أو لانتمائه إلى طائفة أو منبت لا يروق للنخبة الحاكمة.
ففي إطار الجدل الدائر، ولأن الحرب لم تقل كلمتها النهائية بعد؛ فإن الموضوعية في قراءة المشهد تتطلب تدقيقاً صحفياً، ومراجعة نقدية في تلاوين لوحة الأحداث، وبأنه ثمة ملاحظات عديدة يجدر التوقف عندها؛ إذا أردنا أن نفهم العوامل المحيطة بتطور الأحداث.
الملاحظة الأولى، هي أن التكهن بحرب عالمية جديدة على خلفية تجريد إيران من عوامل القوة والتوسع؛ هو تقدير مبالغ فيه، وفي غير مكانه. والقول به لا يتفق على الإطلاق مع الشروط التي تقوم عندها الحروب العالمية. والصراع العالمي اليوم بين القوى الكبرى ليس تناحرياً على شاكلته أيام الحرب الباردة لأنه ليس أيديولوجيا. والنظام الاقتصادي العالمي يتصف بمرونة كافية لحل التناقضات في المصالح على حساب اقتصاديات الدول الأقل نمواً، وبالتالي تقاسم النفوذ على شاكلة التقاسم الذي حصل بعد الحرب العالمية الأولى، ويسند ذلك التصور أن الحرب الأوكرانية الروسية رغم حساسيتها لم تفضِ إلى خيار من هذا النوع.
الملاحظة الثانية، هي إذا كانت هناك نذر واقعية بوجود تهديد عالمي يخص دائرة واسعة من الدول والمجتمعات؛ فهو في الواقع تهديد الإرهاب، والإرهاب الإسلاموي على وجه التحديد، والذي تنهض به منظمات الإسلام السياسي المتطرفة على شاكلة بقايا تنظيم القاعدة وداعش والنصرة، والدول الداعمة لها. الملاحظة الثالثة، وبالاعتماد على ما تقدم، وعلى قاعدة أن مشروع الشرق الأوسط الجديد يستدعي المواجهة الحتمية، مع نقاط ارتكاز الإسلام السياسي، ومصانع الإرهاب؛ فحري بالباحث أن يتجه لناحية الدولة التركية، باعتبارها المعقل الأول لصناعة الإرهاب الإسلامي، وبأن الحرب في إيران ليست النهاية بل بحسب تغريدة دولت بهجلي رئيس حزب الحركة القومية في تركيا، هي رسالة إلى أنقرة، وبأن تركيا هي القصد النهائي من الحرب، وعلى هذا الرصد يمكن أن نفهم الكثير من ألغاز هذه الحرب، والتي قد تكون تدابير الذكاء الصنعي أرادت أن تأخذ إيران في أحد اطوارها القادمة، وربما في المسرح السوري إلى مواجهة مع أنقرة التي سبق لها أن خذلت طهران فيه.