حكومة الشرع تحتضن الاتفاقات الإبراهيمية

كمال حسين
يكثر الحديث هذه الأيام عن إعادة إحياء الديانة الإبراهيمية، وينطلق مروجوها في دعواهم لاستمالة المريدين والاتباع من فكرة أساسية هي أن الأديان السماوية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام لها جذر روحي واحد يتمثل بأبو الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام، الذي يتمتع بصفة النبي والرسول في الديانتين اليهودية والإسلامية معاً، وحيث يحظى ابنه إسماعيل بمكانة خاصة ومفصلية في السيرة النبوية عند النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وفي الديانة الإسلامية بشكل عام، وعلى قاعدة أن الأديان الثلاث هي أديان توحيدية تشترك في نظرتها إلى الخلق في الإقرار بوجود إله خالق واحد يسيّر الكون، ويتحكم بالوجود؛ يجد مطلقو الدعوة الجديدة الحجة بنشوء الحاجة إلى توحيد الأديان الثلاث، سيما وأن الممارسات الدعوية لم تنجح على الأرض، ولدى القائمين على رعاية الأديان الثلاث؛ لم تنجح بمحو الكره، وإشاعة السلام بين أتباع الديانات رغم مصدرها الواحد وجذرها الواحد.
لكن ما يجدر ذكره حول فكرة مشروع الديانة الجديدة هو أن رفضاً واسعاً، ومقاومة صلبة متعددة الجوانب من قبل مفكرين إسلاميين ومؤسسات فقهية إسلامية قد ناصبت هذا المشروع العِداء منذ انطلاقته، وسعت إلى دحض المنطلقات، والتشكيك بمراميها وأهدافها، وكان في رأس قائمة المشككين مؤسسة الأزهر، والمفكر الاسلامي أحمد الطيب وآخرون؛ ممن تحججوا بأن الديانة الإبراهيمية هي محتواة ضمن الرؤية الإسلامية، ولا تنفك عن أن تكون متماهية معها، وأن الكلام المخالف يعد هرطقة وتجديف بثوابت الدين، وعمل من أعمال التوظيف السياسي لخدمة أجندات مشكوك فيها، لكن وبصرف النظر عن صحة هذا المأخذ على المشروع التوحيدي الجديد، وقبل الانتقال إلى المقلب الإسرائيلي ودور هذا المطبخ في صياغة هذه الفلسفة الروحية والسياسية الجديدة؛ لا بد من الإشارة إلى حقيقة هامة لا مهرب منها، وهي أن الدين، أي دين كان يتعرض دوماً ومنذ النشأة إلى محاولة التعدي على مهمته الدعوية والأخلاقية، كما جرى خلط الأهداف السياسية، وتلطي أصحاب المصالح الكبرى خلف الأبعاد الأخلاقية والإنسانية للخطاب الديني، بدءاً من حقبة الحروب الصليبية التي حصدت أرواح الملايين تحت شعار تحرير قبر السيد المسيح عليه السلام، مروراً بالحجج العثمانية التي اشتغلت، وما زالت تعبث حتى اليوم على وهم إحياء خلافتها، وانتهاءً بإنشاء مدارس الإسلام السياسي في أول ثلاثيات القرن الماضي كبيدق وحاجة أيديولوجية في المعارك الرأسمالية ضد الشيوعية.
وعلى نفس الخطا يجري المشروع الإسرائيلي اليوم، والذي جابه على مدى العقود الماضية نوعين من التحديات.
التحدي الأول، تمثل بالمشروع القومي العربي، والذي تم إفشاله، وجرت هزيمته، وخسر معاركه الوطنية في ميادين التنمية والديمقراطية، وفي ذهن الشعوب العربية أولاً قبل أن يخسر ها في المباراة الحضارية وفي موازين القوى الإسرائيلية.
والتحدي الثاني المتمثل بالإسلام السياسي، والذي قفز إلى صدارة المواجهة في العقود الثلاثة الماضية، وقد ترافق مع بروز ظاهرة حزب الله في لبنان، وحماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، والذي من علاماته أيضاً تسجيل نشاط بارز لحركات الإخوان المسلمين، وفصائل السلفية الجهادية في تطورات ظاهرة الربيع العربي، هذا النشاط الذي لابد أن يكون قد أقلق الجانب الإسرائيلي، وخاصة مع بروز مراكز استقطاب تتلطى بالدين، إقليمية منافسة، إيرانية شيعية حيناً، وتركية قطرية سنية حيناً آخر.
هذا ولئن كانت الدولة العبرية قد سجلت نتائج باهرة حتى الآن على صعيد إتمام مهمة كسر العضم للقوى المنضوية تحت لواء المحور الإيراني الشيعي، وتتابع السير بنجاح في طريقها إلى لي ذراع القوى المناهضة في المحور الآخر الإسلامي السني القطري التركي؛ فلن يفوت الجانب الإسرائيلي أهمية الجانب الفكري في حسم صراعات النفوذ في المنطقة، ولن يغيب عن دائرة اهتمامها؛ التركيز على نزع أنياب الخصوم في أنقرة وطهران، وفي غير مكان، عبر تجريد خصومها من سلاح توظيف الدين في معركة الصراع على الإقليم، وفي خطط رسم الشرق الأوسط الجديد.
لذلك ينصب اهتمام مهندس التوجهات الفكرية في مشروع الشرق الأوسط الجديد إلى ضرورة اقتلاع القيم الإسلامية الراديكالية من البناء الفوقي في مجتمعات بلدان المنطقة، وضمنها النصوص التي تحث على العنف والجهاد كلازمة من لوازم العقيدة، وعلى هذا المبدأ أعيد الدين الإبراهيمي، وجرى التصميم على اعتباره الدين الذي يضمن انسياب الشعوب في مشروع الشرق الأوسط الجديد بكل يسر وسلاسة، بمعنى استخدام قيم الدين الجديد لخلق بيئة تتعايش فيها شعوب المنطقة مع بعضها، وتقبل التطبيع مع إسرائيل، كما تقبل اندماج دولة إسرائيل مع نسيج المنطقة.
ونستطيع أن نقول أن الديانة الإبراهيمية الجديدة التي تسوقها الدوائر الإسرائيلية، ومراكز تشكيل الرأي العام، من أبجدياتها دعوة الدول المتجهة لتوقيع السلام مع إسرائيل إلى تمرير القيم الإبراهيمية النافية للعنف والراديكالية نحو داخل الوعي الجمعي للشعوب، وإلى بنائه الفوقي وثوابته الثقافية والأخلاقية، وبكلام واضح لا لبس فيه؛ أن الديانة الجديدة في أحد وجوهها دعوة للتحالف السياسي والعسكري مع إسرائيل، وهذه الاعتبارات قد كانت ضمن جدول أعمال المفاوضات التي جرت أخيراً، ودارت حول إقامة العلاقات بين دولة الإمارات وإسرائيل.
ولطالما كان من أهم وظائف الديانة السالفة الذكر؛ هو تهيئة الأرضية في الذهن العربي لقبول دور إسرائيلي ريادي في معادلات المنطقة، ومن مهام أية معاهدات سلام أو خطوات تطبيع يمكن أن تحصل هي تسهيل الطريق أمام التعاليم الإبراهيمية، لتصبح المظلة العقائدية التي تنشر عن هذه المعاهدات، لذا فإن التفكير المنطقي سيستدعي توجيه سؤال حول طبيعة المحادثات المكشوفة والملحة التي تدور بوساطة خليجية بين حكومة الشرع، وما بين مفاوضين عن الدولة العبرية؟ وما موقف هذه الحكومة من مسألة تبني قواعد الدين الإبراهيمي موضوع البحث؟ وهي الحكومة التي جاءت إلى مكانها تحت بريق الروافع الإسلامية المتطرفة، وتحت سقف شعار تحرير المقدسات، وأين ستضع رأسها وهي توغل في صمتها على تدمير الجيش السوري وأسلحته التي تكدست خلال سبعين عاماً على حساب لقمة السوريين، وفي تواطؤها أيضاً حيال عمليات الاجتياح التي تتكرر يومياً في أراضي الجنوب السوري؛ دون أن تدلي بكلمة، أو تطلق طلقة في مواجهة هذه الإجراءات، وليس هذا فقط، بل كيف ستقنع قاعدتها الشعبية بمسوغات هذه الخيانة وهذا التخاذل؟ وهي التي دأبت على تعبئة اتباعها ومريديها للنيل من سمعة نظام الأسد الأب والابن بتهمة بيع الجولان السوري، وعدم الجدية في التصدي لعمليات القوات الإسرائيلية.
أين ستضع رأسها سلطة الإسلام السياسي ونموذج حكومة ( من يحرر يقرر) وهي التي تعهدت أمام الأمريكان أن تلتزم الصمت حيال أية اختراقات من جانب القوات الإسرائيلية للأراضي السورية؟ وأينها من شعار تحرير المقدسات؟ وهي التي تعهدت للأمريكان بالاعتراف بالقدس عاصمة للدولة العبرية مقابل مساعدتهم، أعني أمريكا، على الاحتفاظ بالسلطة في دمشق، ليس هذا وحسب، بل إن من يتابع خطوات الانبطاح لاستجداء تفاهمات، وبأي ثمن مع الجانب الإسرائيلي، ولو كانت على حساب الكرامة الوطنية. هذه الخطوات التي جاءت ترجمتها الوقحة عبر التعاون في ملف الجاسوس الشهير “إيلي كوهين” و “كامل ثابت” الذي أعدم في دمشق من قبل حكومة آمين الحافظ البعثية، أواسط ستينيات القرن الماضي. من يتابع هذه الاندفاعة وهذا التهور في البت نيابة عن الأمة في قضايا مصيرية؛ يستنتج شيئاً يقينياً واحداً هو أن أساتذة الخيانة الوطنية هم مؤسسو مدارس الإسلام السياسي، وليس أي طرف آخر، وأنهم الفريق المشبوه والضالع منذ نشأته بخدمة المخططات والسياسات الغربية والبريطانية على وجه الخصوص.