مانشيتمقالات رأي

الشرع.. رهانات الخارج واستحقاقات الداخل

محمود علي

ما يزال المشهد السياسي والعسكري في سوريا يشهد مزيداً من التصعيد والانفلات الأمني في مناطق عديدة، رغم مرور نحو ستة أشهر على سقوط النظام البائد، ولم تعد معها المسوغات والمبررات باستمرار حملات التصفية على أساس مذهبي وطائفي؛ تقنع أحداً تحت مزاعم وجود فلول النظام السابق. فيما تبدو الساحة السورية منقسمة على نفسها، وكأنها على أعتاب مرحلة عاصفة بالتحولات الدراماتيكية، كما أن محاولات السلطات المؤقتة التستر على تلك الأفعال التي وصلت إلى حد “الجرائم والإبادة” تنفع، بالرغم أنها محاولات خجولة، وتبدو في أحيان كثيرة “مشبوهة ومتواطئة”، حسب الكثير من المراقبين، ومعها باتت السلطة القائمة تفقد مصداقيتها أمام هول الجرائم المرتكبة والمجهولة، والتي تزداد كل يوم.

إن كان البعض يسعى لاختصار أزمة سوريا وبأنها أصبحت جزءاً من الماضي، من خلال المصافحة بين الرئيس المؤقت “الشرع” والرئيس الأمريكي “ترامب”، وإشادة الأخير بشخصية الشرع ودوره؛ إلا أنها تبدو مقاربة سطحية لا تنتج حلاً وطنياً يقود سوريا نحو الاستقرار ونبذ العنف والتطرف. فإحدى طباع “ترامب” المعروفة أنه لا يبالي بالمشاكل السياسية والاجتماعية في أي بلد كان، الرجل يبحث عن المال، والمال فقط، ولا يهتم بشؤون البلدان التي لا “تدفع له”، حسب وصفه. فلا يمكن البناء على لقاء عابر مع ترامب، وكأنه قدم وصفة سحرية ستنقل سوريا من مرحلة الدمار والاحتراب، إلى مرحلة تحتل فيها موقعها بين الدول المتقدمة الديمقراطية. استجداء الحل من ترامب هو بمثابة الطلب من الشيطان لحل مشاكل سوريا.

الشروط الخمسة التي وضعها ترامب أمام الشرع، كافية لتقويض أسس سلطته المترنحة والآيلة للسقوط، إن لم يتدارك اللحظة الحرجة التي يمر بها. فهو إلى الآن في طور التحول إلى نظام. ومن خلال تلك الشروط وضع الشرع وحكومته أمام خيارين أحلاهما مر: إما أن يسير في تنفيذها دون اعتراض أو تلكؤ، أو أنه يضع نفسه وسلطته في فم الحوت، وحينها لن تنفعه أي من مراهناته على الخارج.

إن تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وهي أولى الشروط وأهمها وأكثرها إثارة للجدل، بات واضحاً من خلال تموضعات القوى في الداخل السوري، أنه لا يمكن للشرع الإقدام على هذه الخطوة بشكل انفرادي ودون مقدمات. المزاج الشعبي في البلاد رافض بشكل قطعي لأي محاولة تطبيع بهذا الشكل، ويعتبر العديد أنها ستغدو “استسلاماً وليس سلاماً”. والشعارات المتطرفة التي ترفعها الحركات السلفية المنضوية تحت راية “هيئة تحرير الشام” والمنادية بتحرير القدس بعد دمشق، تعتبر عراقيل جدية أمام الشرع للإقدام على أي محاولة تطبيع للعلاقات مع إسرائيل، وهي تهدد بانقلاب قاعدته عليه في هذا الظرف الحساس والدقيق الذي تمر به سوريا ونظامه لم يتشكل بعد ولم يترسخ.

الورقة التي يتمسك بها الشرع بأن إسرائيل تسعى للتطبيع مع “السنة” على اعتبارهم “أغلبية”، لا معنى لها في ظل موازين القوى المتأرجح داخل سوريا. الصحيح أن إسرائيل تتطلع إلى تطبيع العلاقات مع نظام قوي متماسك يمثل كل السوريين على مختلف انتماءاتهم ومذاهبهم، وهو ما يحاول البعض تغييبه في ظل الهمروجة التي يحاول البعض تسويقها بشكل مبتذل من قبيل تعويم سلطة الشرع عربياً وإقليمياً، ويغيب عن بالهم، وكأنهم يمتلكون ذاكرة السمكة، بأن الدول العربية والإقليمية عوّمت نظام الأسد قبل سقوطه بعامين، من خلال إعادته إلى الجامعة العربية، وحضوره القمم العربية، إلا أن سقوطه كان أسرع مما كان يتوقعه الكثيرون.

الشرط الأكثر صعوبة، يتمثل في إخراج المقاتلين الأجانب المتطرفين من سوريا، وهو الملف الذي طالما يؤرق الشرع وطاقمه الحكومي والأمني. يتبين من خلال مسار التعاطي مع هذا الملف الشائك، أنه لا قدرة ولا رغبة لدى الشرع في طيه سريعاً. كيف سيتخلى عن رفاق دربه في العقيدة والإيديولوجية بهذه السهولة؟ لا يمكن أن نقارن براغماتية الشرع مع قدرته لإنهاء تواجد الأجانب على الأرض السورية. وقد قال الشرع بحضور الرئيس الفرنسي “ماكرون” بأنه سيمنح الجنسية لبعضهم، أي أنه بعث برسالة تحدي للمجتمع الدولي بعدم وجود نوايا لديه للتفريط بتلك الورقة التي طالما أوصلته إلى دمشق، وفق تصوره. كما أن ردود الفعل من قبل تلك الجماعات المسلحة المتحصنة في عدة مناطق بإدلب وريفي اللاذقية وحماة، وانتشارها في معظم المناطق السورية بعد سقوط النظام، تشكل قوة ضاغطة على الشرع، تجعله يحسب ألف مرة قبل الإقدام على أي عمل يستهدف تواجدهم. القناعة الراسخة لدى الغالبية، أن تلك الجماعات لن تترك الأرض السورية طواعية، وتعود إلى بلدانها، وترضخ للشروط والضغوط الغربية والإسرائيلية. الفكرة العقائدية الدائرة حول تحرير بيت المقدس وتدمير إسرائيل، هي من حركتهم ودفعتهم للقدوم إلى سوريا، إضافة إلى ادعائهم “نصرة أهل الشام”. من الصعوبة بمكان تغيير قناعاتهم الدينية والإيديولوجية، ما يهدد باندلاع اقتتال داخلي بين الشرع وتلك الجماعات، وبدأت إرهاصاتها تظهر في أكثر من منطقة في سوريا. وأفصح وزير الخارجية الأمريكي ماركيو روبيو في لقاء أنطاليا مع وزير الخارجية السوري “أسعد الشيباني” بأن الأخير طلب مساعدة الولايات المتحدة في إنهاء ملف المقاتلين الأجانب، وأكد أنه أبدى موافقته للعمل على إخراج كل المقاتلين الأجانب من سوريا.

حالة التوتر وعدم الاستقرار السائدة في سوريا، لا يمكن وضع نهاية لها والدخول في مرحلة إعادة البناء إلا من خلال بناء توافقات داخلية بين مختلف المكونات السورية. فإن كان الشرع يعمل جاهداً على نيل القبول الإقليمي والدولي، فإنه بالمقابل يتغاضى عن حل الملفات الداخلية المتراكمة منذ عهد النظام السابق، وكذلك تلك التي خلقتها المجموعات المتطرفة التابعة له، إن كان في الأحداث الدموية في الساحل السوري، أو ضد الدروز. فكما أن النظام السابق عوّل بالمطلق على الخارج في المحافظة على نفسه، فإن الشرع يعيد ذات السيناريو، ويعتمد على ثلة من المارقين في تشويه سمعة سلطته، ويفتقر إلى آليات وديناميات الحوكمة في إدارة شؤون الدولة والمجتمع، فيما أطلق العنان لبعض الموتورين والحمقى في تأجيج الخطاب الطائفي والعنصري، ما ينذر باندلاع حرب طائفية مذهبية أكثر تدميراً من السابق.

يتطلع معظم السوريين أن الحل يبدأ من خلال المصالحة مع الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، عبر تفعيل بنود الاتفاقية الموقعة بين الرئيس “أحمد الشرع” والجنرال “مظلوم عبدي”، ويعتبرون أن أي عرقلة أو تهرب من استحقاقات تنفيذه؛ ستعيد الأزمة إلى المربع الأول، وتضعف من سلطة الشرع وشرعيتها في الداخل والخارج. هذه الحقيقة لا يمكن التغاضي عنها أو تجاهلها، وكلما جرى تسريع عملية الحوار والتفاوض مع الإدارة الذاتية، كلما اقتربت سوريا من حل أزمتها، ووضعت اللبنات الأساسية لبناء سوريا جديدة، وأي مقاربة خارج هذه الرؤية ستزيد من تعقيد الأزمة وتطيل بعمرها.

الاجتماع الأخير في الحسكة بين وفد من دمشق والإدارة الذاتية وبحضور الجنرال “عبدي”؛ مؤشر إيجابي أن هناك ثقة متبادلة بين الطرفين، ويفترض أن تتعزز أكثر لتدخل في مسارات ونقاشات تفصيلية أكثر جدوى. فمسألة إعادة النظر في “الإعلان الدستوري” وضرورة تعديله، يشير إلى مرونة من قبل حكومة الشرع، وربما تفضي الحوارات في الأيام القليلة القادمة إلى نتيجة مثمرة تفتح الطريق أمام حلول أخرى ينتظرها السوريون بفارغ الصبر، مثل حل ملفات عودة أهالي عفرين، سري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض إلى قراهم ومدنهم، وكذلك حل مسائل النفط ومشاركة قوات سوريا الديمقراطية في قوام وزارة الدفاع، وغيرها من الملفات.

إنقاذ سوريا من بين فكي الانهيار والعودة بها إلى الحياة مجدداً، يتوقف على عدد من القضايا، منها الابتعاد عن منطق الاستئثار بالسلطة، وتكوين بطانة من الخاصة، وترك المفاهيم الإيديولوجية والعقائدية السابقة، والقبول بتنوع المجتمع السوري بكل تلاوينه وأشكاله، وإشراكه في رسم مستقبل البلاد، وكذلك إيلاء الأهمية للداخل أكثر من الخارج، والانتقال بالبلاد إلى مرحلة التفاعل الإيجابي والانخراط في عملية مصالحة وطنية شاملة لا تستثني أحداً، والابتعاد عن سياسة المحاور والاستقطابات الإقليمية والدولية، وإبراز وجه سوريا الوطني الناصع والمتنوع.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى