مانشيتمقالات رأي

سوريا وإعادة إنتاج ظروف الحرب الطائفية

محمود علي

أعادت الأحداث الأخيرة التي وقعت في جرمانا، أشرفية صحنايا وريف السويداء، وقبلها في الساحل السوري إلى الأذهان مرة أخرى شبح الحرب الأهلية والطائفية، التي طالما خيمت على السوريين بعد انزلاق الاحتجاجات إليها في بداية الأزمة السورية.

تنفس السوريون الصعداء مع رحيل النظام البائد، خصوصاً بعدما أصبح متاحاً لهم التنقل في جميع أرجاء سوريا، وأزيلت معظم الحواجز، ما أشاع معه مناخاً من الأمن والاستقرار، وساد اعتقاد لدى الكل وصل حد اليقين، بأن الأزمة أصبحت جزءاً من الماضي، وبأنها رحلت مع النظام، وبدأ السوريون عهداً جديداً عنوانه الرئيس، التوافق في إعادة بناء وطنهم وإدارته، بغض النظر على الانتماءات الطائفية أو المذهبية أو العرقية.

يبدو من خلال وقائع التطورات على الأرض أن الأمن، السلام والاستقرار بات أضغاث أحلام للسوريين، وما يسوق له عبر بعض وسائل الإعلام في الداخل والخارج، والذي يقدم صورة وردية عن الأوضاع، ما هي إلا تغطية وتمويه على حجم الانتهاكات الجسيمة في العديد من المناطق. انتشار ظاهرة الشحن الطائفي والمذهبي، وبشكل علني في الشوارع والساحات، وحتى في دور العبادة، ينذر بتطور خطير، ربما ستكون نتائجه مدمرة على كل السوريين، وستأتي على ما تبقى من المجتمعات السورية المختلفة، والحقيقة الراسخة أنه لن يبقى أحد خارج تلك المعمعة في حال الوصول إلى تلك النقطة الحرجة من فصول الأزمة.

إن البحث عن المشتركات ونقاط الالتقاء بين السوريين عديدة، ولكن ينبغي في البداية تفضيل الحق الإنساني في العيش على كل انتماء وإيديولوجية ومعتقد، ومن المفترض أن يطغى هذا الموضوع على أي توجه ودعوة إلى التجييش الطائفي، أو محاولة الثأر والانتقام. وعندما تصبح تلك المشتركات نقاط قوة فعلية، بالتأكيد ستتمكن من قطع الطريق على كل فتنة طائفية ومذهبية، والتمهيد لمصالحة وطنية شاملة قبل كل شيء. فالكل يدرك أن لا طائل من حرب أهلية ثانية، ولا أحد سينتصر فيها، ويكفي السوريين تجربة أربعة عشر عاماً من الاقتتال. إن سحب سوريا مجدداً إلى ساحة حرب مفتوحة ستزيد من حجم التدخلات الخارجية فيها، وستغدو الأزمة وسوريا برمتها ألعوبة في أيدي تلك القوى الخارجية، وهي تنتظر بفارغ الصبر وقوع السوريين في هذا الفخ مرة ثانية. والتدخل الإسرائيلي في الاقتتال الأخير خير مثال على ما أتينا عليه.

لا يختلف اثنان أن الدولة السورية ممثلة بحكومتها المؤقتة الراهنة تتحمل كامل المسؤولية حاضراً ومستقبلاً عن أي أعمال وانتهاكات باسم الطائفية والمذهبية، وعليها أن تُبَرِّئ ساحتها أنها ليست شريكة في تلك الأعمال، وتكسب ثقة الناس من كل الانتماءات، وتبرز صورة الدولة الجامعة للكل حولها، لا أن تنحاز لطائفة من خلال صمتها، أو تحاول تقديم سيناريوهات مفبركة لا تقنع أحداً من خلال بعض الوجوه الإعلامية البائسة والمقيتة، وتحميل المسؤولية للطرف المعتدى عليه، وإظهار حقائق مشوهة مغلوطة، مقابل إفلات المجرمين والخارجين عن القانون ودون تقديمهم للعدالة.

تمر السلطات السورية في أزمات عديدة، وعلى جميع المستويات السياسية، العسكرية والاقتصادية، وقبلها على الصعيد الأمني. فما أطلق عليه مؤتمر النصر في فبراير/ شباط الماضي، والذي تم فيه تعيين “أحمد الشرع” رئيساً مؤقتاً، جاء بفعل ضغوط خارجية أكثر مما كان برغبة داخلية سورية، فجاءت تلك الشرعية التي نالها “الشرع” من المؤتمر مهزوزة ولم تنل رضا غالبية الشعب السوري، بل جاءت وفق صيغة محاصصة عسكرية لتقسيم المناصب فيما بينهم، واعتقادهم “وهماً” أنهم حققوا الانتصار بمجرد رحيل النظام.

الحقيقة الساطعة، والتي يجب أن يقتنع بها الكل، سلطة ومواطنين وقوى سياسية ومدنية، أن سقوط النظام لا يعني إطلاقاً انتصار الثورة، وما نشهده في معظم المناطق السورية من جرائم قتل وخطف وانتهاكات تؤكد أننا على مسافة بعيدة عن الانتصار، بل يمكن القول بكل شفافية؛ إن الانقسام والشرخ المجتمعي والطائفي تعمق أكثر.

الخطأ الأول الذي ارتكبته القيادة السورية الجديدة تمثل في اعتمادها على العناصر الأجنبية، وتسليمها مناصب رفيعة في الدولة والجيش، وترك العِنان لها لتفعل ما تشاء، كنوع من المكافأة لها على “خدماتها للثورة”، وفي النهاية انعكس هذا القرار بشكل سلبي عليها بالدرجة الأولى. الخطأ الثاني كان في تعيين أميين وجهلاء بالقوانين العسكرية في قيادات الجيش ووزارة الدفاع، رغم أن هذا التصرف يتناقض كلياً مع جميع المفاهيم والتراتبية العسكرية في كل جيوش العالم. فتعيين شخص كانت مهنته “صانع أحذية” في منصب نائب وزير الدفاع، وآخر في نفس المهنة قائداً لفرقة عسكرية، وثالث يداه ملوثتان بالدماء مثل المدعو “أحمد الهايس/ أبو حاتم شقرا” قاتل السياسية الكردية رئيسة حزب سوريا المستقبل “هفرين خلف”، يجعل هذا النظام الذي يتأسس على أكتاف هكذا شخصيات ممسوخة أضحوكة أمام الرأي العام الداخلي والخارجي، ويفقده مصداقيته في المحافل الإقليمية والدولية، هذا ما عدا ورود أسماء بعضهم في لوائح الإرهاب العالمي وخضوعها للعقوبات الأمريكية. وقبل إقدام القيادة السورية على أي خطوة من هذا القبيل، يتوجب عليها أن تفكر بمهلة /90/ يوماً التي منحتها لها الإدارة الأمريكية لتنفيذ شروطها الثمانية.

ربما النقطة الإيجابية التي تسجل لهذه القيادة هو إقدامها على توقيع اتفاقية مع قائد قوات سوريا الديمقراطية في مارس/ آذار الماضي، ولكن يبدو أن القيادة السورية، تسير خطوة إلى الأمام وخطوتين للوراء، حيث تحاول تعزيز أوراق تفاوضها مع (قسد) من خلال دفع خصوم الأخيرة إلى الواجهة، لتضغط بها، وتحصل منها أكبر قدر من التنازلات في عدة قضايا وملفات مختلفة قيد التفاوض والنقاش بينهما. وتعيين المدعو “شقرا” قائداً لفرقة في كل من الحسكة، الرقة ودير الزور، تأتي في هذا السياق، وهي تدرك جداً حساسية هذا الموضوع بالنسبة لـ(قسد). أو أن تركيا تمارس ضغوطاً كبيرة عليها، وتفرض شخصيات مرتبطة بها، وتقحمهم في مفاصل التشكيلات الجديدة للدولة والجيش.

في الطرف الآخر، الصراعات الداخلية بين قيادات وأقطاب “هيئة تحرير الشام” وصراعها على المكاسب السلطوية، بدأت تنكشف وتطفو على السطح، من خلال تضييق الخناق على “الشرع” وقيادته الراهنة، عبر افتعال العديد من الأزمات التي هو بغنى عنها. والانشقاقات في صفوف “الهيئة” من قبل ما يدعى “الأمير الجزائري” وبعض القيادات الأخرى، ومبايعتها لـ”القرشي”، والذي هو زعيم تنظيم “داعش” الإرهابي، يدفع للتأكيد بأن تلك القيادات المحملة بالعقلية الطائفية والمذهبية، والتي لا تؤمن بغير القتل وسفك الدماء، وترفض كيان الدولة من أساسه، ستكون أولى القوى في مواجهة “الشرع”، وهو الصراع الذي ولد مع ولادة تلك الحركات السلفية المتطرفة، وستستمر معها، لأنها قضية بنيوية تتعلق بأسس وإيديولوجية تلك الحركات، ولا تستطيع التحرر والفكاك منها إلا بزوالها. والهيئة لم تكن خارج هذا السياق منذ نشأتها في عام 2012، فهي من قضت على أهم قادتها مثل “أبو مالك التلّي” و”سامي العريدي” و”أبو جليبيب الأردني” أو ما تسمى بجماعة “الأرادنة/ الأردنيين” ضمن صفوف الهيئة منذ أن كان اسمها “جبهة النصرة” وتحولت إلى “فتح الشام” وأخيراً إلى “هيئة تحرير الشام”.

على ضوء هذه الانقسامات الجديدة في صفوف الهيئة، وكذلك محاولة المدعو “أبو عمشة” قائد ما تسمى فرقة سليمان شاه/ العمشات” إنشاء منطقة نفوذ له تشمل حماة وريفها، وحتى الوصول إلى أطراف القصير وتل كلخ، فإنها ممارسات تدحض مزاعم وادعاءات الحكومة السورية المؤقتة، وتنسف كل مساعيها بوجود وزارة دفاع تضم تحت رايتها كل الفصائل السورية السابقة، وتشير إلى أن الكل يعمل وفق أجنداتها الخاصة، وبدعم من قوى خارجية معينة. وهو ما يزيد من مخاوف الأقليات الدينية والإثنية من تعرضها لحملات تطهير مذهبية وطائفية، وكذلك عرقية، ما يدفعها إلى طلب الحماية الدولية والخارجية من مبدأ الدفاع عن نفسها وحماية وجودها.

لا تملك القيادة مزيداً من الوقت أو ترف الانتظار طويلاً، وعليها البحث بشكل عاجل عن حلول ومخرجات وطنية للحرب الأهلية التي تلوح في الأفق، إن كانت فعلاً حريصة على حماية وحدة سوريا وسيادتها، وليس لها إلا أن توطد تحالفها مع قوات سوريا الديمقراطية، والقبول بها كشريك في إدارة البلاد، وليس النظر إليها من خلال البوصلة التركية أو منظور قوى أخرى، فلقد تأكد أنها – أي قوات سوريا الديمقراطية – هي الأكثر حرصاً على وحدة البلاد، ومن يتحالف معها سيكون النصر حليفه في النهاية، ومن يعاديها ويخاصمها، لن يحصد سوى الريح والهزيمة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى