مقالات رأي

دور الأجـ ـهزة الأمـ ـنية في الشتاء السياسي

بقدر ما نجحت أجهزة المخابرات التركية في الحصول المعلومات، من المناطق التي تطمح بالسيطرة عليها، ومن بينها غرب كوردستان، بدءً من عفرين إلى ديركا حمكو، إن كانت على الأرض أو عن طريق درونات بيرقدار، فشلت المخابرات الإسرائيلية والـ (سي أي أيه) في معرفة ما خططت له حركتي حماس والجهاد الإسلامي، والمساعدات الإيرانية العسكرية التي دخلت غزة وبهذا الكميات الهائلة، أو معرفة مراكز صنع الصواريخ التي أطلقت من قطاع غزة على المدن الإسرائيلية حتى اليوم والتي بلغت قرابة ستة آلاف صاروخ.
ولربما التحصين المتين لمنظمة حماس نابع من تأثيرات العمق الديني قبل القومي، وهو ما لا يتمكن من تأمينه البعد الإيديولوجي أو الوطني، ولذلك يلاحظ أن جميع المناطق التي حاربت فيها تركيا بأدواتها والمرتزقة السوريين، ومنها منطقة الإدارة الذاتية كانت ولا تزال مخترقة بشكل واسع، ومثلها الحكومة الفلسطينية، ومنظمة فتح والمنظمات الأخرى بعكس حركتي حماس والجهاد الإسلامي، بغض النظر على أن للمخابرات الروسية دور رئيس فيما تم، وهي من ضمن استراتيجيتها ضد أمريكا وحلفائها لتوسيع جبهة الصراع معها، بعدما فشلت في أفريقيا، وبدايات ظهور ضعفها في أوكرانيا.
أجهزة المخابرات هي التي تتحكم في المسيرات السياسة للدول، بل وحتى في الصراعات القومية والدينية والمذهبية، وبإمكانها أن تزيد من الشرخ فيها أو تخلق التآلف، رغم أنها تقف في العتمة، لكنها تملك القدرة على تحديد المواقف السياسية، والخطط الحربية، وبإمكانها أن تعرقل العلاقات الدولية أو تفتح المجالات الدبلوماسية، تقف على عاتقها الخسارة أو الانتصار في الحروب، هي التي كانت خلف عملية استقالة العديد من رؤساء العالم ومن بينهم الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، وهي التي ساعدت فلاديمير بوتين على إنقاذ أردوغان من السقوط. وكانت أجهزة المخابرات الإسرائيلية وعن طريق مجلس الحاخامات نشر الدعاية لأردوغان وإقناع العالم السني في الدعاية ومحاولة نصبه خليفة للمسلمين، وهو ما يجب معاقبة نتنياهو وجهازه الأمني على هذا الخطأ الشنيع.
إنها السلطة المخفية والقابعة في الغرف المظلمة، وهي التي تعرف بالدولة الخفية أو العميقة، وفي الواجهة تظهر السلطة التنفيذية، والتشريعية، لا تنتظر المديح، لكنها تلام وبقوة في حالات الفشل، فمجريات الأحداث الحالية في إسرائيل هناك من سيعاقب عليه وبقوة، ودون أن يظهر على العلن، ليس رؤساء أجهزة المخابرات الإسرائيلية وحدها، بل وفي السي أي أيه أيضاً، ولم تحصل على الكثير على خلفية ما بلغته من المعلومات عن طريق عميلها كوهين، وما حصلت عليه قبل حرب خمس حزيران، وفشلها في حرب عام 1973م.
على خلفية نجاح رئيس المخابرات التركية السابق هاقان فيدان، نقله أردوغان إلى منصب وزارة الخارجية، ليجمع بقدرة المعلومات السرية التي يملكها على إقناع الدول الكبرى وعلى رأسها أمريكا القيام بعملية اجتياح البقية الباقية من غرب كوردستان، فهو الذي كان وراء عملية أنقرة (بغض النظر عن تبني قوات الحماية الشعبية العملية من عدمه) وحصوله بسرعة غريبة على تنديد وزير خارجية أمريكا للعملية، ومن خلفها السماح بالقصف الهمجي على البنية التحتية لغرب كوردستان، ولا يستبعد أن يكون له ضلع فيما جرى في الكلية الحربية في حمص، فالدرونات التي قصفتها هي من سوية دقة درونات البيرقدار.
والغايات من العمليتين أعمق من مجرد الانتقام، بل هي بداية تغيرات جذرية في الواقع الجيوسياسي لسوريا، من النظام في دمشق إلى إدلب وحتى منطقة الإدارة الذاتية، خاصة بعدما فشل أردوغان في ست محاولات دبلوماسية سياسية عسكرية سابقة، وبالتأكيد للمخابرات الروسية والأمريكية إطلاع كامل على المخططات، حتى ولو أنهما حتى اللحظة لا يوافقان على طموح تركيا باجتياح شرق الفرات مقابل التخلي عن جزء واسع من منطقة إدلب والمنظمات التكفيرية المتواجدة فيها لصالح روسيا والنظام، رغم أن إيران لا تعارض عليها، للتغطية على ما خططت له مع المنظمات الفلسطينية ضد إسرائيل، فكما هو معروف هناك علاقات إستراتيجية ما بين المخابرات التركية والإسرائيلية، بعكس ما يتبجح به أردوغان على الإعلام ونفاقه أمام العالم السني، والخطأ الفظيع التي تستمر فيه حكومة نتنياهو وجهاز أمنه، أنه يتساهل مع خباثة أردوغان وألاعيبه.
ما يجري في منطقة الشرق الأوسط، هي كخيوط العنكبوت، متداخلة وتتمم بعضها البعض، لا يمكن البحث في إشكالية بمعزل عن كلية المشهد، فما كان يجري في السابق ضمن جغرافية منطقتنا كان لها سماتها الخاصة، لكنها اليوم أصبحت جزء من الصراع الكلي بين روسيا وأمريكا، وما خلفهما من الدول، وربطت مع الصراع على أوكرانيا، تتحكم في المواقف أجهزة مخابراتهما، أو كما يدرج لئلا تعطى لهذا الجهاز المكانة الكبرى ولئلا تخسر السلطة التنفيذية والتشريعية مركزها كسلطتين حاميتين للدستور وقيادة الشعب والوطن، لا يتم الحديث عنهما، وهو ما جبل عليه عمل هذا الجهاز المرعب، المتحكم في قيادة العالم.
فما جرى في سوريا، كانت خلفها أجهزة بشار الأسد الأمنية، هي التي اعتقلت وقتلت أطفال درعا، وما تلاها من الجرائم، وهي التي خلقت المعارضة التكفيرية، ودمرت سوريا، نفذتها السلطة التنفيذية، والحالتين كانت بأوامر من الدمية بشار الأسد.
الأجهزة الأمنية الدولية، قدمت التقارير والدراسات لأنظمتها عما قد يخلفه الربيع العربي من التغيرات في الشرق الأوسط، وهي التي دفعت ليس فقط بالأنظمة العربية وتركيا وإيران، بل والدول الكبرى، بالعمل معا، لوضع نهاية لمسيرة الثورات وتوجهاتها التنويرية، والحفاظ على المنطقة على ما هي عليه من التخلف والطغيان والصراعات القومية والدينية المهلكة، إن كان بشكل مباشر، كما تمت في المؤتمرات العديدة التي عقدت بين روسيا وإيران وتركيا، تحت أسم مؤتمرات أستانة وسوتشي وجنيف وطهران وأنقرة وموسكو وغيرها، وأحيانا شاركت فيها بعض الدول المجاورة لسوريا. أو بشكل غير مباشر والتي كانت تتم بين أمريكا والدول الأوروبية من جهة وتركيا والدول العربية من جهة أخرى، كما تم قبل عملية أنقرة والقصف الإجرامي لتركيا على البنية التحتية والمؤسسات المدنية للمنطقة المتبقية من غرب كوردستان، والتي تشترك فيها إيران بشكل غير مباشر.
اتصالات الأجهزة الأمنية واتفاقياتها وتحديد المسارات الرئيسة تسبق جميع الحوارات والاتفاقيات الدبلوماسية والسياسية الرسمية، وبإمكانها أن تمنع عقد المؤتمرات أو تفشلها حتى بعد حدوثها، وقد كانت أحد أهم الإدارات، وصاحبة الرأي الأول، طوال الحرب الباردة بين الإتحاد السوفيتي وأمريكا، ورغم الصراع المستمر بين روسيا وأمريكا في سوريا، والمناطق الأخرى، لم تنقطع يوما الاتصالات الاستخباراتية المدنية أو العسكرية بينهما، ولا تزال مستمرة حتى اليوم، ولولا ذلك لما جازف الرئيس الأمريكي بزيارة كييف عاصمة أوكرانيا وعلى الملأ، ولما عقد وزراء خارجية الدول الأوروبية مؤتمرهم في نفس المدينة.
فحتى الإستراتيجية الأمريكية والتي بدأت تتغير في الأبعاد الواسعة، تحكمت بها السي أي أيه، وإستراتيجييها أقنعوا قادة السلطة التنفيذية والتشريعية على أن الأساليب القديمة بالسيطرة على العالم كإمبراطورية لم تعد تجدي نفعا، ويجب الاعتماد على أدوات من أبناء المناطق ذاتها مع مراقبة من الأجهزة الأمنية وبقوة عسكرية عادية، وهي التي كانت خلف انسحابها السريع والواسع من أفغانستان والتحشيد ضد روسيا في أوكرانيا، وبها تكون قد ابتعدت عن استفزاز حلفائها، أو التعامل معهم بالأبعاد السياسية، كما جرى ويجري مع تركيا حول منطقة الإدارة الذاتية في غرب كوردستان، وموقفها منها في الحرب الأوكرانية، رغم تذبذبها ما بين الناتو وروسيا، وعدم أخذ موقف حازم منها رغم تجاوزاتها جغرافية الناتو العسكرية والسياسية، والاحتفاظ على الأبواب مفتوحة معها.
فمن السذاجة تأنيب الضمير، ومعاتبة البعض، حول ما جرى في غرب كوردستان، بدءً من احتلال عفرين وغيرها إلى ما يجري في البقية من المنطقة، فالقضية الكوردية تدرج ضمن مخطط أعمق وأوسع وأكبر بكثير من قدرة القوى الكوردية مجتمعة وخاصة عندما تكون على خلاف، إدلب هي الطعمة التي لا تحل للمقايضة بها مقابل القضاء على القضية الكوردية وليس فقط على الإدارة الذاتية.
معاتبة البعض، رغم الأخطاء التي كثيرا ما لا يحمد عقباه، ولا بد من الإدانة، يجب أن تكون على سويات أعلى مما نقوم به، وبمنهجية مساعدة البعض، إن كان على مستوى الحراك أو الشعب، وتوسيع المدارك، لفهم ما يحدث خلف الكواليس؛ وتجاوز تحليل ما يظهر على الإعلام.
علينا أن نعمل على تجاوز الخلافات الحزبية، حتى الإيديولوجية، ونحافظ على الخط الوطني بيننا، دونها سنظل أحد أدوات الأجهزة الأمنية للمخابرات الدولية، ولا يهم أي جهاز كان، سوري أو إيراني أو تركي أو أمريكي أو روسي، سنظل كحراك سهل قيادته من قبل ربما أحد عناصر السي آي أيه أو غيره، يستخدموننا أو التلاعب بنا متى وكيفما شاؤوا، حتى ولو اضطروا إلى أحياء داعش ثانية، أو تقوية الحشد الشيعي، أو توجيه المنظمات السورية التكفيرية لتوسيع العبث في عفرين ومناطق شرق الفرات، أو السماح لتركيا باجتياح البقية الباقية من المنطقة، وغيرها من الألاعيب الحاضرة في المنطقة، وهي تتجاوز مجرد تعميق التآكل الداخلي في حال الرفض أو الاعتراض على مخططاتهم. لا قوة يمكن أن تخفف من هذا الدمار أفضل من توعية الذات، وتوسيع مداركنا ومن ثم التآلف والتحالف الداخلي.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
8/10/2023م

ADARPRESS #

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى