مقالات رأي

اجتماع موسكو

تركيا لا تعول على ما تم بينها والنظام السوري وروسيا في موسكو، وتدرك أنه الوجه الآخر لسلسلة المؤتمرات التي كانت تسمى بسوتشي وأستانه، ولا تختلف عما تم في طهران، مع ذلك أقدمت عليه رغم غياب إيران، والتي هي دلالة معارضتها.
وإيران بدورها تعلم أنها من ضمن سلسلة مسرحيات أردوغان، تحريك سياسي بأوجه عسكرية، والغاية الرئيسة هي احتلال غربي كوردستان، أو الشمال السوري حسب منهجيتها والنظام، وليس لحل القضية السورية.
والجديد هنا، أنه اجتماع، من ضمن سلسلة أستانة، تم لأول مرة على مستوى وزارات الدفاع، أي نقلت الحوارات من المجال السياسي إلى المجال العسكري، وجميع البنود المطروحة في البيان الختامي، هي طموحات متبادلة مرفوضة بينهم، كانت تنشر بتصريحات سياسية أو على الإعلام، وضعت بنص متناقض هزيل، خال من التنسيق والتوافق، عرض كل طرف أرائه، ونسخت خلف بعضها، رغم تضاربها، بعكس ما كان يتم سابقا وحيث الاتفاق على النص.
حث أردوغان على هذا الاجتماع، لئلا يحصل فراغ في الحراك السياسي والدبلوماسي، فتجد قوى المعارضة الداخلية منفذا للطعن. ولئلا تضعف المعارضة السورية قبل أن يحصل على مبتغاه. ويقوى التحالف الكوردي الأمريكي، والذي قد يؤدي إلى خلق شرخ بينه وبين روسيا، إن كانت في سوريا أو في مناطق أخرى تتضارب فيها مصالحهم.
مع ذلك بينوا على أن روسيا هي عرابته، وعرابة السلسلة المحتملة لاجتماعات قادمة، أي السلسلة المتممة لأستانة، وفضل أردوغان الخروج بضجة إعلامية على الهدوء الذي كان يتم سابقا، بعد فشله في محاولتين مع روسيا وأمريكا، أمل من هذه المسرحية الجديدة نتيجة تفيده، وتغطي على خسارته رغم الدمار الذي ألحقه بالبنية التحتية لغربي كوردستان وجرائمه بحق المدنيين، وفشله في مسرحية تحريك هيئة تحرير الشام نحو عفرين دون فائدة.
تركيا، وبعد أن أصبحت تعرض ذاتها كدولة كبرى في العالم، تقف في وجه الناتو، وتعارض مصالح روسيا في بعض المناطق، وتحاول مواجهة أمريكا، بدأت تطمح إلى خلق فوضى دولية، تخمد بها الثورات الشعبية، في منطقة الشرق الأوسط، من بوابة سوريا، وتحاول توسيع حلبة الصراع بين روسيا وأمريكا، في مناطق خارج أوكرانيا، وخاصة على جغرافية لها دور رئيس في مجريات الأحداث عليها، وحيث بإمكانها الاستفادة منها، بطرح ذاتها كطرف مساوم.
ومن مخرجات المعادلة، عرض طلبها، عدم مساعدة الحراك الكوردي، أو إعطائهم المزيد من المكتسبات، وبأساليب مغايرة لما تم عرضه سابقا، وتبدأ بعدم السماح للحراك الكوردي لعب دور في المستقبل السوري، وهذه استراتيجيتها كدولة؛ مقابل مطالب أردوغان بوضع حد لمصير الإدارة الذاتية أو لقوات قسد.
قضية الانتخابات، ومحاولات أردوغان كسب الرهان، من خلال إثارة إشكالية المهاجرين ومحاربة العمال الكوردستاني، جزء من الطموحات الأردوغانية التكتيكية، وهي آنية ولا تقارن بطموح التخلص من المعارضة السورية وخاصة العسكرية والمنظمات التي تضعها روسيا ضمن قائمة الإرهاب، وبها ستخرج من إرهاصات النقد الروسي، والتي تتلقاها كلما طالبتها بمحاربة قسد أو الإدارة الذاتية.
في الواقع العملي، الأطراف الثلاثة، أو الأربعة فيما لو أضيفت إليهم إيران، لا تزال بعيدة عن تجاوز الخلافات، وهي أعمق من حلها بكذا اجتماع، فقطبي التناقضات وتقاطع المصالح، بين الدول الثلاث، ومعهم أداتهم النظام السوري، لا يمكن حلها حتى بعدة اجتماعات، على مستوى الوزراء، مثلما لم ينجحوا عندما تم على مستوى الرؤساء، ووزراء الخارجية.
الإشكالية أكثر من معروفة لدى أمريكا، لذلك لا تقدم على أي تصريح ولا تبدي رأياً، لأن ما تم في موسكو، مثلما تم في طهران، دون مستوى المساس بمصالحها في المنطقة. ومتى ما بلغت تحالفاتهم وتحركاتهم مرحلة الخطر على مصالحها أو وجودها في سوريا أو في المنطقة الكوردية، حينها سنجد التحرك الأمريكي على المستويين السياسي والعسكري. وعلى الأرجح ورغم كل تصريحات أردوغان تجاه أمريكا، لكنه يتجنب المواجهة المباشرة.
وبعد فشله وللمرة الثانية خلال الشهور الست الأخيرة، وعدم تمكنه من تكرار مسرحية الباب وعفرين وسري كانيه، لاحتلال البقية الباقية من غرب كوردستان، وبعدما لم يتمكن من إقناع أمريكا وروسيا، وخاب الأمل بالمنظمات العسكرية التكفيرية السورية، بدأ يعول على مجرم سوريا الأول، الإرهابي الأكبر، بشار الأسد، لتمرير مسرحيته ضد الإدارة الذاتية والحراك الكوردي بشكل عام، على أمل أن تقوم روسيا والنظام بمحاربة قوات قسد أي عمليا محاربة أمريكا، أملا بعدها احتلال ما يطمح إليه، علما أنها تعلم تماما أن روسيا لن تفتح جبهة مع أمريكا في المنطقة الكوردية، والنظام لن يعرض ذاتها لخطر التعرض لمصالح أمريكا بشكل عملي، فالتصريحات الإعلامية شكل والإقدام على عمل عسكري شكل آخر، وتركيا تدرك هذه الجدلية لكنها مع ذلك تحاول كمنهجية ميكيافيلية، والتي أشتهر بها أردوغان، دفع النظام للقيام بما تطمح إليه، ولا تتجرأ عليه، وهي محاربة أمريكا في غربي كوردستان.
الحوار فاشل، ومخرجاته هزيلة، والطموحات التركية واضحة لروسيا، وأحلام النظام، بالقضاء على المعارضة، لا يمكن لتركيا المجازفة بها بسهولة، وفوق كل هذا هناك مصالح أمريكا في المنطقة، ورسالة الحوار من موسكو مثل غيرها من الرسائل كانت موجهة لأمريكا قبل أن تكون لقسد، وستخمد في الأيام القليلة القادمة، وستكون هناك حوارات أخرى مماثلة، وعلى مستويات سياسية، وليست عسكرية، لتصبح سلسلة جديدة حول مستقبل الشعب السوري.
أردوغان يدرك أنه لن ينجح، فلماذا أقدم على هذا الانحراف الشاذ في مواقفه، ما بين المعارضة السنية والنظام الذي كان ينعت رئيسه بمجرم حرب؟
هل هي عملية التفاف على المعارضة التركية قبل الانتخابات، والتي تطالب بالتطبيع مع النظام المجرم؟
هل هي محاولة لإقناع موسكو، بفتح المجال الجوي في مناطق منبج وتل رفعت، لتكون مقدمة لاحتلالها؟
هل هي من ضمن الموانع التي تضعها أمام نظام بشار الأسد الذي يطالبه بالانسحاب من الأراضي السورية قبل قبول التطبيع، علما أن الاجتماع بحد ذاته قبول لمسيرة التطبيع؟
هل هذه هي أخر المحاولات الأردوغانية لمحاربة الكورد، بعدما فشل في خططه الأخيرة، وبعدما خاب أمله بالمعارضة السورية التكفيرية، والتي كان يريد أن يوجهها لمحاربة الكورد بدل النظام؟
ألا يدرك أردوغان، أن تركيا كدولة تتقدم، وهو كرئيس حزب لا يزال يملك إمكانيات النجاح، أن منافسة روسيا وأمريكا كقطبي الصراع العالمي، وحيث أنهما كإمبراطوريات، مجازفة مصيرية، يعرض مستقبل تركيا على المحك كدولة، وقادمها سيكون كارثيا، ويعرض جغرافيتها لمعادلة التغيير التي تطمح إليها الدول الكبرى كبداية لتعديل ما تم في بدايات القرن الماضي؟
أم أنه مغامر ميكيافلي، وليس سياسي محنك كما يقال عنه؟ نجح على خلفية مصالح أمريكا والشركات الرأسمالية العالمية العظمى والتي سخرت تركيا السنية الليبرالية لمصالحها ورفعت من شأنها لبلوغ أهدافها.

د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
2/1/2023م

ADAR_PRESS #

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى