في الجولة الأولى لحوار الإدارة الذاتية ودمشق

محمود علي
انتهت الجولة الأولى من الحوار بين وفد الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، ووفد يمثل الحكومة المؤقتة في دمشق، مدشنة الطريق أمام مسار يبدو أنه طويل نوعاً ما، وفق كل المعطيات السياسية، رغم أجواء التفاؤل التي سادت اللقاء، وفق بيان الصادر عن الاجتماع الأول. اقتصرت هذه الجولة على تعارف أعضاء الوفدين، وبحث ملفات عاجلة وضعت أمامهما على الطاولة، مثل موضوع امتحانات الشهادتين الإعدادية والثانوية للطلاب في مناطق شمال وشرق سوريا، وكذلك وضع إطار وتصور عام حول عودة مهجري عفرين وسري كانيه وكري سبي، إضافة إلى تعزيز اتفاق حيي الشيخ مقصود والأشرفية، إضافة إلى إقرار تشكيل لجان فرعية متخصصة، ووضع موعد للجولة القادمة.
الشجاعة التي امتلكها الطرفان لعقد الاجتماع الأول، تخلق معها مناخاً إيجابياً، وتمهد الطريق أمام الوفد الكردي أيضاً، حيث من المزمع تحديد موعد زمني له للتوجه إلى دمشق، وبدء مسار خاص بحل القضية الكردية، وهو دون شك يتكامل مع المسار الأول.
إلا أن عدة أسئلة تطرح نفسها وربما تكون مقدمة لفهم ما يدور وما سيدور في كواليس الحوار، أولها؛ هل بإمكان هذا الحوار أن يفتح ثغرة كبيرة في الجدار الصلد الذي وضعته الحكومة الراهنة بينها وبين مجموع القوى الوطنية والديمقراطية في البلاد، وبالتالي إمكانية إشاعة جو من التعددية والتشارك في إدارة البلاد، بعدما فرضت لوناً دينياً صرفاً واحداً عليها، حتى أن السلطة الراهنة زرعت رجالاتها في المفاصل الأساسية والحساسة في الدولة ومؤسساتها، وربما يكون لها مبرراتها ضمن السياقات الأمنية المضطربة وحالة عدم الاستقرار في البلاد؟ وهل سيتمكن وفد الإدارة من إجراء تعديلات على الدستور المعد من قبل السلطة؟ فإن كانت انتقادات عديدة توجه للحكومة بأنها شمولية ولا تقبل من يشاركها في السلطة، فهل لدى وفد الإدارة القدرة على تغيير الذهنية التي تفكر بها السلطة، وبالتالي حملها على تغيير مواقفها من جملة المسائل والقضايا موضوع البحث بينهما، أي حملها لتفكر بهموم الشعب السوري عموماً وتولي أهمية للداخل أكثر من الخارج، خاصة أنها – أي السلطة حتى الآن تبحث عن شرعيتها في الخارج وليس في الداخل – وتبني توافقاً مجتمعياً؟ فإن كان وفد الإدارة يملك صلاحيات مطلقة في وضع جميع الملفات على الطاولة والنقاش حولها دون أي حرج أو تلكؤ، فهل يمتلك الطرف الآخر تلك الصلاحيات، أم مضطر لأن يأخذ رأي قيادته في كل شاردة وواردة؟ والأنكى من ذلك؛ ما مدى حضور الأجندات الإقليمية والدولية على الطاولة، وهل ستؤثر على مسار ونتائج الحوار؟ وهناك العديد من الأسئلة سنطرحها ونحاول الإجابة عليها بموضوعية في سياق المقال.
بداية يجب الإتيان بأن أي شروط مسبقة توضع أمام سير المفاوضات ربما تؤخر في الوصول إلى النتائج خلال وقت قصير، فالإطار العام للحوار يدور ضمن البنود الثمانية لاتفاق الشرع – عبدي الإطاري، وهي المرجعية لكلا الوفدين، وأي استعصاء أو عرقلة ستتطلب تدخلاً مباشراً منهما لتذليلها ووضعها في المسار الصحيح لها. هذا التصور يقود إلى أن المسار محكوم بالنجاح ولا يقبل أي فشل له، ومهما كانت المنغضات له. إضافة إلى أن الدعم الإقليمي والدولي يساهم إلى حد كبير في إنجاحه ووصوله إلى نهاياته الموضوعة له، وهو ما يمكن أن يلمسه المرء من خلال التصريحات الإيجابية للمسؤولين الغربيين بشكل عام.
والحكومة السورية وضمن الواقع الجيوسياسي السائد في سوريا والمنطقة مضطرة لتغيير ما اعتبرتها من “المسلمات” والتعاطي مع فكرة التغيير والتشاركية كمبدأ حيوي يحفظ لها ديمومتها واستمراريتها في رأس السلطة، وعليها أن تدرك جيداً أن أولى المتضررين من توجهها الأحادي ستكون هي بالذات، فهي محكومة بالتغيير ولا مناص أمامها من إجراء تعديلات على “دستورها” وحكومتها وكيفية وطريقة وأسلوب إدارتها للبلاد. ويبدو أن هذا البند والشق من الحوار سينال النصيب الأكبر من الجدل والنقاش حوله. فهي – أي الحكومة – حتى الآن ترفض كلمة “الديمقراطية”، والحركات الإسلامية بشكل عام لا تؤمن بالوطن، بل تؤمن بفكرة “الأمة الإسلامية” وهو ما تحاول أن تثبته في المناهج وفي عقيدة الجيش المزمع تشكيله. فإن كانت الإدارة الذاتية أمام استحقاقات تغيير ربما تطال هيكليتها الحالية، وتفرض إعادة النظر في جملة الثوابت لديها، فإن الحكومة بوصفها تمثل كامل البلاد أمام استحقاقات مضاعفة، ويستدعي العمل عليها بشكل متواصل ومشترك، ولن تجد في المحصلة غير الإدارة الذاتية، كأكثر الأطراف موثوقية في عملية البناء وترميم الصدوع المجتمعية والسياسية والعسكرية في البلاد، هذا إن كانت فعلاً ترغب في انتشال سوريا من فم الحيتان والأزمات المستمرة التي تعصف بها.
إن كان الوفدان قد تجاوزا حاجز بناء الثقة المتبادلة، ودخلا في مرحلة البحث والغوص في المسائل والقضايا الأساسية؛ فإن ينبغي الحذر من الدخول في التفاصيل المملة والتعجيزية، فكما يقال بأن الشيطان يكمن في التفاصيل، وأن تترك مناقشة تلك التفاصيل للجان الفرعية التي ستشكل في وقت لاحق، ومنحها الصلاحيات في اتخاذ ما تراه مناسباً. مثل قضية عودة مهجري عفرين وسري كانيه وكري سبي، وتوفير ضمانات أمنية لهم بعودة كريمة ومشرفة، ومن ثم الانتقال إلى بناء مجالس وقوى أمنية مشتركة، قادرة على إدارة تلك المناطق بكل أريحية، وتكون موضع قبول من قبل الأهالي أيضاً. أي يجب ألا تفرض حلول إكراهية، أو تتم مقاربة هذه القضايا وفق منطق الدولة والسلطة فقط، بل يستوجب أن تكون المقاربة أخلاقية وإنسانية قبل أن تكون قانونية.
الأمر الأخر الذي يتطلب الوقوف عنده، هو وقف الحملات الدعائية المضادة والبروباغاندا المبتذلة، لأنها تخلق مناخاً من التشاؤم والنفور لدى الحواضن الشعبية، وهي مسألة لها أهميتها في ترسيخ السلم الأهلي. وأول خطوة من المفترض القيام بها؛ ضبط الأطراف التي تحاول تعكير صفو الحوار، وخاصة تلك الأطراف المرتزقة التي لا تزال مرتبطة بتركيا.
الأهم في هذا الحوار ينبغي أن يأخذ طابعاً وطنياً، وألا يحمل أبعاداً دينية وقوموية قد تتسبب في نسفه، ويجب أن يشكل نقطة استقطاب وجذب لكل القوى الوطنية والديمقراطية، وألا يُنظر إليه من زاوية احتواء كل طرف الآخر، لأن المبدأ الأساسي للحوار هو إعادة سوريا الوطن على مسرح التاريخ، وفق صيغة حضارية تليق بالسوريين، والقطع مع مرحلة الاستبداد والاستفراد بالسلطة والإدارة. فإن كانت لدى “الشرع” أفكار إيجابية ولا يستطيع الإفصاح عنها، نظراً لبنية حركته والوسط المتشدد المحيط به؛ فإنه بإمكان وفد الإدارة الذاتية تمهيد الطريق ليجد تعبيراته الوطنية ضمن الحوار ومن خلاله، لطالما وجد أنها – أي الإدارة – خير من يعتمد عليها في إعادة بناء سوريا الحديثة. ويجب تجنب الخلط بين المفاهيم الدينية والوطنية، وبالتالي الغرق في الاصطلاحات والتعريفات، الأمر الذي من شأنه أن يبدد الجهود في الوصول إلى الهدف المنشود، مثل طرح مفاهيم الدولة الدينية والمركزية، مقابل مفهوم اللا مركزية الذي تطرحه الإدارة وتتمسك به بقوة، والذي يبدو أكثر واقعية ومعقولية في سوريا.
مهما يكن، فإن مؤشرات وحظوظ نجاح الحوار تبدو أكثر من فشله، وكلا الطرفين مضطرين لإنجاحه، وأي فشل له سينعكس سلباً على الطرفين، وهذه الحقيقة من المفترض أن يدركها الطرفان. وتهيئة الشروط والظروف المناسبة لاستمرار الحوار بشكل جاد ومسؤول، هي أهم دعائم نجاحه، ويتطلب في الوقت ذاته إبداء شفافية ووضوح تام، ومشاركة ما تم التوصل إليه من نتائج مع الحواضن الشعبية والمجتمعية، ما يشكل أريحية لديها ويشعرها بأن الحوار يسير في الطريق الصحيح.
يبقى استمرار الحوار ونجاحه مرهوناً بقدرة الطرفين على طرح حلول سريعة وعاجلة لجملة المسائل والقضايا، وتكون لها مصداقية في الأوساط الشعبية، رغم إدراك الكل أنها قضايا شائكة وقد تأخذ وقتاً طويلاً لفك طلاسمها ووضع حلول ناجعة لها. ولكن بالتأكيد أن سنوات من الحوار والمفاوضات أفضل من ساعة قتال واحدة.