آفاق الحوار المرتقب بين الوفد الكردي ودمشق

محمود علي
بينما يستعد الوفد الكردي للتوجه إلى دمشق؛ لبدء الجولة الأولى من الحوار مع الحكومة السورية حول حل القضية الكردية، تتراءى في المشهد السوري العام تحولات قد تؤثر على مسار الحوار المفترض الذي لم يبدأ بعد.
فكما أن وفد الإدارة الذاتية أجرى أولى جولات الحوار مع وفد حكومة دمشق نهاية شهر مايو/ أيار الماضي، وتمخضت عنه خمسة مخرجات لم يترجم على الأرض سوى البند المتعلق بالامتحانات؛ فإنه تسود مخاوف في الأوساط الكردية من أن تتنصل دمشق من واجباتها ومسؤولياتها في الدفع نحو حل القضية الكردية، وبالتالي المماطلة في استقبال الوفد الكردي. تزايدت هذه التكهنات بعد أن صرح أحد أعضاء الوفد بأنهم أبلغوا الحكومة السورية باستعدادهم للتوجه إلى دمشق لإطلاق الحوار المرتقب، وأنهم بانتظار الرد.
لا شك أن الوفد الكردي يحمل معه برنامجاً سياسياً مفصلاً عن مطالب الحركة الكردية، ومعه الشعب الكردي في حل القضية الكردية في إطار سوريا موحدة، يتضمن تفاصيل يمكن الإتيان لسلاسة البدء بالخطوات العملية، وهي تنبع من واقعيتها ومشروعيتها. وأولى تلك الخطوات هي زرع الثقة والقناعة من جانب حكومة دمشق بأن حل القضية الكردية يعد البوابة الأولى التي يمكن الولوج منها لبناء سوريا آمنة ومستقرة، وعدم الحل يعني استمرار الأزمة بكل تفاصيلها. ولكن هل تشكلت لدى دمشق تلك الذهنية المنفتحة على الحل، وتملك المرونة الكافية في التعاطي مع قضية طالما كانت تؤرق الدولة السورية منذ بداية تأسيسها، وهل تملك أيضاً خيارات التعاطي معها ضمن مفهوم الدولة الوطنية الواحدة، وإلى أي حد تمكنت من التحرر من الضغوط والإملاءات الدولية والإقليمية، وخاصة التركية، وهل استطاعت تكوين رؤية وتصور وطني لحل القضية الكردية بمعزل عن تلك المؤثرات، وقبل هذا وذاك؛ ما هي آفاق وإمكانيات تقديمها حلول ناجزة للقضية الكردية في الأوضاع المتقلبة التي تشهدها سوريا، وما تأثير الملفات الأخرى في سوريا، مثل فوضى السلاح وانتشار مظاهر الانفلات العسكري والأمني، ونشر خطاب الكراهية في الشارع السوري، على مسار الحوار ونتائجه؟
قبل البدء بتسليط الضوء على الممكنات في الحوار الكردي مع دمشق، يبدو أن الحكومة السورية المؤقتة تعاني من انقسام في الرؤى والتصورات حيال العديد من القضايا المصيرية، أولها حول شكل نظام الحكم في الدولة السورية، وقد تغدو هذه المسألة نقطة الخلاف الرئيسية بين الوفد الكردي ودمشق. أوساط الحكم تتجه نحو تكريس شكل الدولة الإسلامية في الدستور والحياة الاجتماعية، وهو ما انعكس في محاولة فرض وقائع جديدة مغايرة لما اعتاد عليه السوريون، إضافة إلى دفاع أطراف السلطة عما تعتبرها “ثوابت ومُسَلّمات” لا يمكن المساس بها لا من قريب ولا من بعيد. وستأخذ هذه القضية حيزاً زمانياً ومكانياً كبيراً من الحوار، وقد تمتص طاقة الطرفين في التوصل إلى توافقات وحلول بخصوص باقي التفاصيل المتعلقة بالتعليم والثقافة، وإدراج القومية الكردية في الدستور، وما إلى ذلك من البنود الواردة في برنامج الوفد الكردي.
ففيما تصر دمشق على التمسك بمركزية الدولة وحصر كل قرارات الدولة بالمركز، دون إبداء أي مرونة في تخفيف الأعباء عن نفسها، فإن الوفد الكردي يتجه نحو إقناع الحكومة السورية بفكرة اللا مركزية في إدارة البلاد، ما يعني توزيع الصلاحيات على الأطراف الرئيسية المكونة للدولة السورية. والحقيقة الساطعة أن أي تشدد من قبل دمشق حيال التركيز على مركزية الدولة قد ينذر بإشعال الصراع مجدداً، وفي الأساس سوريا ما تزال تغلي على بركان قابل للانفجار في أي وقت كان. كما أن لا مركزية الدولة، تعد الركن الأساسي في إرساء الأمن والاستقرار في سوريا، خصوصاً بعد الأخطاء الكبيرة التي وقعت فيها الحكومة الراهنة في الساحل السوري والجنوب، والطريق الوحيد لتجاوز المحنة التي تمر بها، وتكريس سيادة الدولة في تلك المناطق التي شهدت انتهاكات فظيعة، إنما يمر عبر لا مركزية الدولة، وتشكيل مجالس وإدارات محلية تتمتع بنوع من الاستقلالية الذاتية على أساس جغرافي في إدارة مناطقها، وتتشارك مع المركز في الأمور السيادية.
الحكومة السورية أمام استحقاق تاريخي كبير، ويفترض بها أن تغير ذهنيتها السابقة، وكذلك ذهنية التعامل مع الدولة السورية كمؤسسات وإدارات، ينبغي أن تغير نمطها المعتاد في النظر إليها أنها حكر على فئة أو طائفة أو قومية معينة، عليها أن تحدث نقلة نوعية في أسلوب التعامل مع مختلف مكونات الشعب السوري على أساس الاحترام والثقة المتبادلة. والوفد الكردي باعتباره يمثل الشعب الكردي وتطلعاته، بإمكانه تمهيد الطريق أمام الحكومة السورية لزرع تلك الثقة المفقودة إلى الآن، وبالتالي تساهم في إزالة الشروخ المجتمعية بين مختلف مكونات الشعب السوري، والتي كانت معظمها بفعل الأزمة والحرب، ومن مخلفات النظام البائد الذي حكم سوريا بالحديد والنار طيلة أكثر من خمسين عاماً. فمثلما أن الحكومة السورية بحاجة إلى دعم اقتصادي خارجي؛ فهي قبلها بحاجة إلى الدعم الداخلي لترميم البنية المجتمعية المتصدعة، ونبذ التمايزات والاختلافات المذهبية والدينية والعرقية، والتوصل إلى اتفاقيات أساسية مع الكرد عبر الوفد، وحينها يمكن البناء عليها في الوصول إلى مجتمع معافى من كل الأمراض المذهبية والدينية والقومية.
الادعاء بأن دولة المواطنة وحدها قادرة على تجاوز كل تراكمات الماضي السلبية والثقيلة، ووضع حلول بديلة لها؛ غير كافية لترضي كل الأطراف، بل يجب طرح حلول تناسب الخصوصية الوطنية السورية، ولا يشعر فيها أي طرف بالغبن، وهذا ما يركز عليه الوفد الكردي من خلال توجهاته العامة، رغم تركيزه على الحقوق الكردية. دولة المواطنة والحقوق والواجبات والقانون والقضاء المستقل، وكذلك دستور عصري وحضاري يضمن حقوق كل مكونات الشعب السوري، تشكل الأرضية لبناء سوريا الجديدة، والكرد يشكلون المدماك الأول والرئيسي في هذا الصرح الذي يترقبه الكل.
الحوار والنقاش حول تغيير الدستور، أو بالأحرى إعداد دستور عصري وديمقراطي يضمن حقوق الكرد ومعه كل المكونات في سوريا، بالتأكيد سيأخذ وقتاً طويلاً من النقاشات والحوارات، فيما يحمل الوفد الكردي في جعبته مشروع كتابة عقد اجتماعي جديد، تتجلى فيه رغبة السوريين بنموذج العيش المشترك، ويحدد القيم الاجتماعية التي تشكلت بينهم عبر عصور التاريخ، على أن يتخذها منطلقاً نحو كتابة دستور جديد ومرن، لا ينحاز إلى أي مكون، ويضمن حقوق الجميع ولا يأخذ بمبدأ “الأغلبية والأقلية” الذي أثبت التاريخ أنه لا يعد سوى خدعة جلبتها الأنظمة الدكتاتورية والأوليغارشية من الخارج، ولا يتلاءم مع طبيعة المجتمع السوري الذي عاش طيلة تاريخه الطويل في وئام وتوافق، فالكل متساوون في الحقوق والواجبات، والتعامل بندية مع مختلف المكونات، يحصّن الدولة السورية، ويغلق الباب أمام كل الدعوات الطائفية والمذهبية والعرقية، رغم أن الشعب الكردي لا يشكل “أقلية”، بالمفهوم الدارج، بل هو قومية يمتلك كل خصائصها، فهو يعيش على أرضه، وله لغته وثقافته المميزة، وبالتالي إطلاق صفة أقلية على الشعب الكردي يعتبر إجحافاً بحقه، ومن هذا المنظور يجب أن تضمن حقوقه في الدستور السوري، وهو ما سيصر عليه الوفد الكردي في حواراته مع دمشق.
لا تملك الحكومة السورية رفاهية التعامل بازدواجية، وكيفما يحلو لها مع مطالب الشعب الكردي التي يحملها الوفد الكردي، بل مضطرة لإبداء الجدية والمصداقية في تناول جميع تلك المطالب على أسس الشراكة الوطنية، وينبغي عليها الانفتاح على الوفد، ورفع كل المظالم والغبن الذي وقع على الشعب الكردي طيلة السنوات الماضية، وفي هذه المعمعة التي تمر بها سوريا بعد سقوط النظام البائد، ليس لدى الحكومة السورية غير الكرد في انتشالها من الأزمات المتتالية التي تعصف بها وبالوطن السوري، داخلياً وخارجياً.