مانشيتمقالات رأي

في مسوغات دمشق للتطبيع مع إسرائيل

محمود علي

حققت إسرائيل في السنتين الأخيرتين نصراً سياسياً ودبلوماسياً كبيراً في انفتاح محيطها العربي عليها، وتطبيع علاقاته الدبلوماسية معها، وصولاً إلى عقد اتفاقيات سلام ضمن ما أطلقت عليها “الاتفاقيات الإبراهيمية”.

إذا كانت مصر قد كسرت جبل الجليد بينها وبين الدولة العبرية، من خلال الزيارة المفاجئة للرئيس الراحل أنور السادات لإسرائيل، وإلقائه كلمة في الكنيست الإسرائيلي عام 1977، ووصلت إلى توقعيها اتفاقية “كامب ديفيد” معها في عام 1980، وتطبيع العلاقات الدبلوماسية والسياسية، وتبادل لفتح السفارات بينهما، فإن الدول العربية، وخاصة الخليجية منها، سارعت للسير على خطا مصر، وسبقها الأردن عندما وقع اتفاقية وادي عربة عام 1993، وكذلك منظمة التحرير الفلسطينية.

لقد خاضت الدول العربية خمس حروب رئيسية ضد إسرائيل، وخرجت مهزومة في معظمها، وخلفت تلك الحروب انكساراً عربياً في العمق، تراجعت معها، بل غابت، كل الشعارات القومية التي طالما كانت تتشدق بها الدول القومية، والمنادية بإفناء إسرائيل و”رمي اليهود في البحر” وتشكيل الدولة القومية الفلسطينية على أنقاضها.

لم تقتصر انتكاسة الدول العربية في صراعها مع إسرائيل على الحالة العسكرية فقط؛ بل امتدت لهزيمة المشروع العربي في التحرر والديمقراطية وبناء بلدان وطنية، وانتهزت الفئات والطغم العسكرية لتتربع على السلطة في بلدانها، وتفرض ديكتاتورياتها وأنظمتها الأوليغارشية على شعوبها، وتصادر حرياتها وحقوقها في التعبير والمشاركة في بناء أوطانها؛ لتضعها تحت حكم أسوأ أنظمة ديكتاتورية في العالم والتاريخ.

وكان شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة مع العدو الإسرائيلي”؛ عصا غليظة على رؤوس الشعوب العربية، ترتكب كل أشكال الانتهاكات والقمع بذريعة الصراع العربي – الإسرائيلي، الأمر الذي أبقى الشعوب العربية في حالة تخلف، وقضى على كل فرص التنمية والتعليم والتطور.

الرؤية الموضوعية تقتضي إبداء جرأة في توصيف الحالة التي استدعت تطبيع الدول العربية علاقاتها مع إسرائيل، وأولها أنها نتيجة مباشرة لهزيمة المشروع العربي، وبجميع نخبه السياسية والثقافية والفكرية والمجتمعية، وضمنها التيارات الإسلامية، وخاصة الإخوان المسلمين، في الصراع مع إسرائيل. فإن كانت إحدى الشعارات والمقولات التي رفعتها الأنظمة العربية بأن صراعها مع إسرائيل هو “صراع وجود وليس حدود”، فإن هذه المقولة سقطت أمام الهرولة العربية نحو التطبيع مع إسرائيل، وباتت عبارة ممجوجة لا تستسيغها الشعوب العربية.

نكبة 1948 وبعدها نكسة الرابع من يونيو/ حزيران عام 1967، شكلت منعطفات تاريخية ومصيرية في “الصراع العربي – الإسرائيلي”، حسب التوصيف الرسمي والنخبوي العربي؛ إلا أن هزيمة الدول ومعها الحركة التحررية العربية بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، خلقت مناخاً فقدت معها الحركات التي أطلقت على نفسها “حركات المقاومة” المتصدرة للمشهد السياسي والعسكري قواها المادية والمعنوية في ذاك الصراع، وذهبت مرغمة للقبول بالشروط الإسرائيلية للتطبيع.

سوريا التي ما تزال تعاني من حرب أهلية مستمرة منذ أكثر من 14 عاماً، لم تكن بعيدة عن ارتدادات ما حصل بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول. ورحيل النظام السابق، غيّر من ظروف وشروط معادلة المواجهة المفترضة مع إسرائيل، وإن كان النظام البائد يبدي بعض الممانعة في الذهاب إلى تطبيع علاقاته مع إسرائيل بشكل علني؛ فإن هذه الممانعة لم تكن تنبع من مواقف وطنية، بل كان يسعى عبرها تحسين شروط تفاوضه، والحصول على مكاسب أكثر من تطبيعه علاقاته مع إسرائيل، وأولها تثبيت أركانه وديمومته.

يبدو من خلال متابعة التطورات والوقائع على الأرض، أن السلطة الراهنة في دمشق، أكثر استعداداً من النظام البائد لتطبيع العلاقات مع الدولة العبرية، دون إيلاء أهمية لتبعات هذا التوجه على الصعيد الشعبي والمجتمعي. والسياق العام الذي تسير فيه السلطات الحالية، تشير بكل وضوح أنها تعمل على ترسيخ أسس نظامها من خلال الاعتماد على الخارج أكثر من الداخل، أي المطالبة بالشرعية الخارجية دون إبداء أي اعتبار للشرعية الداخلية، فيما تعيش هي بالذات حالة ازدواجية ودوغمائية مفرطة بين شعاراتها الإيديولوجية الدينية المنادية بتحرير “القدس”، وبين سعيها الحثيث للتطبيع مع إسرائيل، وهذا بحد ذاته يمثل تناقضاً صارخاً تحاول السلطات الراهنة تسويقه إعلامياً، وبشكل ممجوج وصلافة غير معهودة تحت مسميات “الانفتاح على الخارج” والادعاء بكسر العزلة عن سوريا.

النظام البائد عمد مراراً إلى اتهام أي جهة تحاول التواصل مع إسرائيل أو تطالب بإحلال السلام معها، ويبدو أن السلطات الحالية لجأت إلى انتهاج ذات الطريقة والأسلوب، محاولة إلصاق التهمة بالدروز والعلويين والكرد بالتواصل مع “العدو”، وانتهاك السيادة الوطنية وما إلى ذلك من التهم المعلَّبة الجاهزة التي أكل عليها الدهر وشرب، غير أنها هي الأخرى تحاول استغباء الناس، عبر محاولاتها البائسة تبرير تواصلها المباشر مع إسرائيل، مقابل توزيع اتهاماتها على كل من يخالفها الرأي والتوجه.

فالزيارات واللقاءات المتكررة بين المسؤولين السوريين والإسرائيليين جرت أكثر من مرة، وفي أكثر من مكان، حتى في إسرائيل والإمارات العربية المتحدة وكذلك في أذربيجان.

المنطق الإنساني يقول بأن أي شخص أو جماعة تتعرض للإبادة، من حقها الشرعي طلب الحماية من أي قوة تستطيع فيها الحفاظ على وجودها أمام قوة تتفوق عليها، وهذا يسري على العلويين والدروز والكرد، خصوصاً بعد حملات الإبادة الطائفية والعرقية التي تعرضوا لها من قبل القوة المتمسكة بزمام السلطة الآن في دمشق. ولا تملك السلطات الحالية أي مبرر أو مسوغ أخلاقي في منع تلك المكونات من طلب الحماية الدولية. فإن كانت هي تعمل ليل نهار على توطيد علاقاتها مع الدول الغربية وكذلك إسرائيل لتثبيت أقدامها، مقابل تسييرها حملات الإبادة الممنهجة ضد الأطراف المختلفة معها في التوجهات السياسية والدين والمذهب، حينها يغدو من المشروعية أن تعقد تلك الأطراف المستهدَفة بعمليات الإبادة تحالفاتها مع القوى التي تمكنها من الحفاظ على وجودها.

زيارة وزير الدفاع السوري، إسرائيل خلال الفترة الماضية، وطلب الرئيس السوري “أحمد الشرع” مزيداً من الوقت لبدء عملية التطبيع مع إسرائيل، خلال لقائه مع الرئيس الأمريكي “ترامب” في السعودية، تؤكد على نية القبول بأول الشروط التي وضعها “ترامب” أمام “الشرع” لرفع العقوبات عن سوريا والتفكير بإعادة العلاقات الدبلوماسية معها. وهنا تغدو أية اتهامات توزعها السلطات على الأطراف الأخرى بخصوص “التعاون مع العدو” فارغة من معناها، ولا تعبر عن حقيقة ما يجري في الخفاء والغرف السرية.

من حيث المبدأ هناك تغييرات جيوسياسية عميقة في المنطقة والعالم، والتوازنات السابقة فقدت مفاعيلها وتأثيراتها، والسلام الشامل المستند على أسس التعامل بندية وعدالة، بات مطلباً لكل الشعوب والنخب الثقافية والسياسية والمجتمعية، بل يعد خياراً إستراتيجياً ووحيداً أمام القوى المتصدرة للمشهد السياسي في المنطقة.

تغير المفاهيم والابتعاد عن التخندقات الإيديولوجية الدوغمائية المتزمتة القوموية والإسلاموية الراديكالية، تدفع باتجاه التفاعل الإيجابي بين جميع دول وشعوب المنطقة، وخيار السلام مع إسرائيل وفق هذا المنظور يغدو في اعتقاد الغالبية رغبة حقيقية، إلا أن المقاربات الانتهازية والازدواجية في التعاطي مع هذه القضية الشائكة، وحالة الغموض التي تلفها من قبل السلطات السورية، تجعل من العملية برمتها موضع تساؤلات كثيرة، أولها الاستئثار بالقرار السياسي في الإقدام على هذه الخطوة، رغم أهميتها وحيويتها، مقابل اتهام الآخر بالعمالة، وإطلاق شتى التوصيفات البائسة واليائسة عليها.

عملية تطبيع العلاقات مع إسرائيل تتطلب بالدرجة الأولى إجماعاً وطنياً، على أن يكون خياراً شعبيا وليس محصوراً بفئة بعينها، والادعاء بأن إسرائيل ستطبع العلاقات مع “الأغلبية السنية”. من خلال التوافق الوطني يمكن الذهاب بقوة للتفاوض حول جميع الملفات المتعلقة بالعملية، وحينها يمكن الحصول على مكاسب أكثر، فيما عقد اتفاقية سلام وتطبيع على شكل تمرير صفقة هنا وأخرى هناك؛ بالتأكيد سترتد بشكل سلبي على السلطة نفسها، ولن تحقق النتائج المرجوة، والخيار المقبول هو المكاشفة مع الشعب والابتعاد عن اتهام أطراف بعينها بالتعامل مع إسرائيل، رغم أنها في الوقت الراهن لم تعد تهمة طالما أن السلطات التي تدعي تمثيلها للوطن تعقد معها اجتماعات متواصلة خلف الأبواب الموصدة، وعليها أن تغير من جملة قناعاتها وتوجهاتها بخصوص هذه القضية الحساسة، وتخلق مناخاً تشاركياً توافقياً، إن كانت بالفعل تسعى للحفاظ على الوحدة والسيادة الوطنية، وتقطع الطريق على أية مشاريع مشبوهة، هي بالذات تساهم في تأجيجها على الساحة السورية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى