مانشيتمقالات رأي

مشهد ما بعد التطبيع مع دمشق

جاء خيار التطبيع العربيّ بديلاً عن العقوبات، واعتباره سبيلاً أو محاولة لتغيير سلوك النظام السوري في الداخل مع شعبه، وفي الخارج مع دول الجوار والاقليم. وفي هذا السياق تندرج سياسة “الخطوة مقابل خطوة” المعلنة في عمّان 1 أيار/مايو 2023.

قرار الجامعة االعربية بعودة العلاقات مع سوريا ليس قراراً دون جدوى، وإن كان يمثّل النقيض لسياسة تغيير النظام بالوسائل السابقة، أي دعم المعارضة والمقاطعة وفرض العقوبات، كل ذلك جعل التعامل مع النظام أفضل الحلول، بحسب رأي المطبّعين، ذلك للحد من تداعيات انجرافه وراء خصوم وأعداء الدول العربية. أو لإعادة النظام الى الحضن العربي ليكون جزءاً من بنية إقليمية تسعى إلى وقف الصراعات المستعصية في بلدان مثل اليمن وسوريا والعراق، حيث الانجراف نحو إيران أو الارتهان لسياساتها، فيما الصراع السياسي في لبنان قد ينتهي الى عودة الحرب الأهلية .

يقوم التطبيع على نوع من البراغماتية على حساب الانقسامات الجيوسياسية أو الطائفية في ظل تراجع حضور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وتنامي مؤشرات قيام نظام دولي متعدد الأقطاب، الأمر الذي دفع دول المنطقة للنظر إلى الصين لقدرتها على لعب دور في حل الخلافات الإقليمية، بالشكل الذي يحد من التوترات والصراعات، بدلاً من الاعتماد على الولايات االمتحدة التي لم تساهم في حل المشكلات في المنطقة، ولم تمنع التهديد الواقع على الدول العربية.

ماذا عن الدور الايراني؟

فرضية التهديد الإيراني التي قامت عليها سياسة الولايات المتحدة، وحشدت لها أنظمة من دول الجوار، لم تمنع التقدم الإيراني والسيطرة على أربع عواصم عربية، ولم تمنع سياسة أمريكا إيران من تطوير سبل المواجهة وتهديد حلفاء واشنطن في السعودية والامارات. إذ تقوم سياسة إيران على المنافسة مع الدور الأمريكي في المنطقة الذي يسعى للاحتواء بدل الحرب، واعتماد نظام العقوبات ودعم تحركات المعارضة للنظام. هذه المقاربة الأمريكية لم تمنع طهران من تطوير أدوات المواجهة وإقامة تحالفات موازية لها، بالتالي تهديد حلفاء واشنطن.

وفي سياق نظرية الاحتواء اعتبرت أمريكا التطبيع مع الأسد الذي تنتهجه الدول العربية فرصة لإضعاف النفوذ الايراني في سوريا، وهو ما نتلّمسه في الاستجابة لمبادرة الملك الأردني – اللاورقة – وهذا أيضاً واضح من تسهيل التطورات دون التطرق إلى محاسبة الأسد على ما تتهمه من جرائم ضد الإنسانية، ودعاوى ارتكاب جرائم حرب مقامة ضده.

لم تمنع سياسات أميركا وحلفاؤها، إيران من أن تبقى لاعباً اقليمياً معترفاً به، الأمر الذي دفع السعودية إلى الاتفاق معها بوساطة صينية، كما لم تمنع هذه السياسة إيران من تعزيز نفوذها في سوريا على كافة المستويات، خاصة بعد زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لدمشق التي توَّجها باتفاقيات عسكرية وافتصادية رهنت سوريا إلى ايران لعقود قادمة.

سؤال التطبيع مع تركيا

شاركت تركيا في مسار أستانا كدولة ضامنة ترعى مصالح المعارضة السورية، ذلك أن الأخيرة فوّضت تركيا بالأمر خلال لقاء سوتشي في كانون الثاني/يناير 2018. عملياً، أنشئ هذا المسار من أجل وقف اطلاق النار وإيجاد حل سياسي في سوريا، ولكن الدول الضامنة لم تصل الى نتيجة فخاضت في مسار خفض التصعيد الذي أنهى المعارضة في مناطق عدة عبر مقايضات متنوعة. وانتهى إلى أن يكون منصة بين هذه الدول للتباحث وتوظيف الأوضاع لصالح أولوياتها ومصالحها المختلفة .

تراجع خلال ذلك دور الولايات المتحدة وانحسر الدور العربي، وتقدمت أنقرة تجاه موسكو، وجاء لقاء الرؤساء، بوتين روحاني أردوغان، في طهران ليشكل تحولاً كبيراً في مواجهة المشاريع الأميركية، حيث أطلق عليها البعض “قمة حرب”، ورغم ادعائها أنها تبحث عن تسوية للنزاع السوري من خلال إطلاق عملية جديدة، إلّا أن تركيا كانت تستثمر المسار في قضم مناطق من شمال وشرق سوريا بدءاً من عفرين ولاحقاً تل أبيض ورأس العين/سرى كانيه، مع استمرار مسار التصعيد والتهديد.

وصل أردوغان إلى مبتغاه في التسوية السياسية في سوريا بعد ختم مسألة وقف التصعيد ووقف القتال بين المعارضة والنظام، والسيطرة على جزء من الأراضي السورية بحجة حماية “الأمن القومي” وتحقيقاً لحلم وثيقة “الميثاق المللي” التوسعية، وبقيت مناطق شرق الفرات تمنعه من تحقيق حلمه بسبب التواجد الأميركي. ليبدأ التحوّل السياسي التركي خاصة بعد قمة الرؤساء الثلاث في طهران التي أعلنت ضرورة خروج القوات الأميركية من سوريا وبدء تهديد مواقعها هناك، ومعها بدأت خطوات المصالحة مع النظام، وهي الخطوة النهائية في إدارة اللعبة. بعضها كان انتخابياً والباقي بعد النجاح في الانتخابات والاستمرار في ابتزاز كل من روسيا وأميركا .

جاء اللقاء الرباعي في أيار/مايو 2023 في موسكو والذي توصل إلى وضع خارطة طريق لتطوير العلاقات بين دمشق وأنقرة، حيث انضم النظام إلى آلية التنسيق الأمنية بين روسيا وتركيا في سوريا وشارك في الخط الساخن المفتوح بين الدول الضامنة لمسار آستانة. توّج ذلك بلقاء آستانا 20 الذي أتم الالتزام بين الأطراف على سيادة سوريا وسلامتها الإقليمية ومكافحة الارهاب، الذي ضم هذه المرة شمال غرب إلى جانب شمال شرق سوريا، ويبقى الإنسحاب التركي الأكثر تعقيداً، ولكنه يخضع للتفاوض وتبديل المواقع وتسليم مناطق للجيش السوري في إدلب وشمال حلب، وفتح المعابر وطرق M4-M5 وتسليمها للنظام، مع إصرار من أنقرة على دور للنظام على الحدود معها، وهو من جملة الأدوار الموزّعة التي قد تأخذ مدىً أبعد بحدود الدعم الروسي والتراجع الأميركي .

لم تعطِ تركيا وعداً بالانسحاب من الأراضي السورية، لكن آلية التنسيق والوسائل المشتركة الممكنة لمحاربة ما يسميه كل طرف بالإرهاب قد نوقشت، لذلك تم التخطيط لإنشاء (مركز تنسيق ميداني) بحسب ما قاله وزير الدفاع التركي الأسبق خلوصي أكار .

دور الإمارات في عملية التطبيع

نأت دولة الإمارات بنفسها، بوصفها أول المطبعين، عن المعارضة بعد أن قدّمت لها الدعم أسوةً ببقية دول الخليج، غير أنها ما لبثت أن تحولت نحو النظام وقدمت له الدعم تحت غطاء إنساني وفي ضوء تحول نظرتها الى الصراع في سوريا، ففتحت سفارتها في دمشق في كانون الأول/ديسمبر 2018 وهذا الموقف جزء من استراتيجية علنية هدفها طيّ صفحة ثورات الربيع العربي، وإعلان انتصار الأنظمة الحاكمة، يتبع ذلك وساطات مع إسرائيل لتكون جزءاً من النظام الإقليمي العربي، ووساطة بين تركيا وسوريا، عبرت عنها الإمارات والسعودية لاحقاً بإعادة العلاقات مع تركيا في شباط/فبراير 2022 إثر زيارة أردوغان للإمارات . وزيارات أخرى لطحنون بن زايد، ثم وزير خارجية الإمارات إلى أنقرة، كل ذلك فتح الأبواب لمناقشة عودة العلاقات مع دمشق التي تعتبر الخط التجاري المهم بالنسبة للإمارات. وهي تعمل في هذه الأثناء على فتح الأبواب لحلول توفّر متطلبات السوريين المعاشية الرئيسية، وتخفيف معاناة الحرب الدائرة منذ سنوات، وقد اعتبره معارضون أن ما تقوم به الإمارات “مفيد للثورة”! ولكن مسار الأحداث لا يؤيّد ذلك .

مواقف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي

لاتدعم مواقف واشنطن وبروكسل بشار الأسد، إذ تركزان على حل يتماشى مع القرار 2254، ولذلك تستمر العقوبات على النظام ومعاقبة كل من يقدم دعماً له، وهناك عمل جار من أجل تنفيذ قانون المخدرات وإصدار قانون لمنع التطبيع، الأمر الذي يبقي مسار التطبيع تحت أنظار دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا، وإن أعلنت الولايات المتحدة أنها تراقب النتائج بعد عودة النظام إلى الجامعة العربية، وبداية التطبيع العملي معه من قبل دول عربية. هذا كله دفع لتوضيح المسار عبر مبادرة قدمها الأردن .

موقف الأردن

لعل الأردن من بين أكثر المتضررين من الأزمة في سوريا، وهو أول من قدم مشروعاً للحل السياسي يعتمد التطبيع مع النظام بحكم أن “الأسد مازال في السلطة ويجب التعامل معه على هذا الأساس”، وقد قدّمت عمّان المشروع باسم “اللاورقة”، التي تعتمد مبدأ “خطوة مقابل خطوة”. تم فتح معبر نصيب وتمت زيارات وتبادل الوفود واتصل العاهل الأردني عبدالله الثاني ببشار الأسد. لكن هذا لم يحد من تهريب المخدرات وتنامي تواجد الميليشيات الإيرانية على الحدود .

نظرة إلى المبادرة الأردنية :

تعتبر هذه المبادرة ورقة تستكمل مسار التطبيع، ولا ندري إذا كانت ستنجز هدفها المتمثّل بخروج إيران مقابل رفع العقوبات وإعادة الاعمار وخروج الولايات المتحدة.

هذه المبادرة “اللاورقة” تتقاطع مع سابقاتها، ذلك أنها تعتمد مقاربة الخطوة مقابل خطوة مستخدمة عبارة “الحكومة السورية” بدل “النظام السوري” محددة خطوات التطبيع معه، ولم تذكر المبادرة دوراً للمعارضة وشكل مشاركتها في الحل، وهي مؤلفة من خمس نقاط:

1- لا حل عسكريا لإنهاء الأزمة

2- تغيير النظام ليس هدفاً فعالاً

3- القرار 2254 أفضل السبل للحل

4- الوضع الراهن سبّب المزيد من المعاناة للسوريين ويقوي الخصوم

5- تأخير التدخل من أجل الحل أو تراجعه سيؤدي الى نتائج قد يتعذر تغييرها.

بالتالي، فإن المطلوب التقدم على ثلاث مستويات سياسي – أمني عسكري – إنساني، يصل إلى حدوث تبدّل تدريجي في سلوك النظام مقابل حوافز، وتأمين بيئة مواتية لعودة اللاجئين بشكل طوعي، ومعالجة مسائل وجود المقاتلين الأجانب ومخاوف دول الجوار، ووقف تهريب المخدرات والحد من الوجود الايراني. كل ذلك عبر مقاربات يقودها العرب تدريجياً تخفّف من معاناة السوريين وتوقف التدهور الذي يضر بالمصالح المشتركة.

وعليه، تقوم المبادرة على مراحل : قريبة – متوسطة – بعيدة دون ذكر سقف زمني محدد. غير أن المهم في الورقة يكمن في أن مُعدِّي المبادرة يلتزمون بدعوة جميع الأطراف بما فيها شمال وشرق سوريا إلى الالتزام بوقف إطلاق النار، وإعادة عمل المنظمات العامة والخدمة المدنية في شمال سوريا، وأن تتبع المدارس المناهج السورية، والتنسيق لضمان أمن الحدود، والتنسيق مع الحكومة االسورية لمعالجة مسألة مقاتلي داعش وأسرهم في المخيمات، وتمويل مشاريع الاستقرار والعمل على المحافظة على سلطة الحكومة السورية في هذه المناطق .

فيما تدعو المرحلة الثالثة من الورقة حكومة دمشق لاعتماد خطوات وإصلاحات لضمان حوكمة رشيدة ومنع الاضطهاد، والمصالحة مع المعارضة ومختلف مكونات المجتمع السوري. والذهاب إلى صيغة حكم أكثر شمولاً ووضع تدابير للمساءلة، وإجراء انتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة، وتسهيل التجارة مع سوريا للسلع المعفاة من العقوبات، وتسهيل الحوار مع الأطراف في شمال وشرق سوريا .

بعد سحب جميع الممتلكات الايرانية وانسحاب القوات الأجنبية والمقاتلين ورفع العقوبات، يموّل المانحون إعادة الاعمار ، ومع الاندماج السياسي تُستأنف العلاقات الدبلوماسية مع سوريا، وتعود سوريا إلى المحافل الدولية بعد عودتها إلى جامعة الدول العربية .

ويكمن مؤدّى التطبيع العربي في :

1- تدعيم موقف النظام في أي مرحلة تفاوضية مع أي طرف.

2- محاباة النظام مقابل الحصول على ميّزات تتعلق بمصالح الدول المطبعة (دول الجوار خصوصاً).

3- خروج الائتلاف من المشهد كممثل للمعارضة مما يُبقي مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) والادارة الذاتية في صورة المشهد، ما يحتم على مسد استثمار الموقف لصالح حل يرضي الجميع.

4- توخي الحذر مستقبلاً من حملات إعلامية وحرب خاصة يقوم بها النظام وإيران.

5- تضمن مبادرة “خطوة مقابل خطوة” مصالح العرب ولم تتعرض بياناتهم لحل بين السوريين، فقط ذكرت شمال وشرق سوريا للتعامل مع الحكومة السورية لمعالجة المسائل المذكورة أعلاه.

6- لن يقبل النظام تنفيذ القرار 2254 وسيستمر بالمماطلة، وبالتالي على المعارضة الديمقراطية استخدام القنوات الدبلوماسية والتواصل مع العرب لشرح وجهة نظرها في الحل.

7- تطوير الإدارة الذاتية، وتعزيز الالتفاف الشعبي حول مشروعها، سيشكل عامل قوة، ويؤدي لكسب مزيد من التحالفات.

8- حتى الآن يمكن القول أن المساعي الدولية للحل قد فشلت .

ضمن هذه الصورة وبناءً على كل ما ورد أعلاه، يجب التركيز على النقاط التالية :

  • الديمقراطية هي القضية الأساسية والرئيسة للحل في سوريا .
  • الترحيب بأي تحرك عربي أو دولي يهدف إلى إنهاء مأساة السوريين وتجاوز الأزمة.
  • ضرورة مشاركة كل الأطراف في الحل وليس النظام وحده.
  • ضمان عودة آمنة وطوعية للسوريين إلى مناطقهم سكناهم الأصلية.
  • مناطق شمال وشرق سوريا هي المرتكز لأي حل سياسي، لذلك يجب العناية بدورها المستقبلي ولابد من تطوير عمل الإدارة لتكون نموذجاً يحتذى به لنظام سياسي جديد.
  • المضي في التواصل وكسب التحالفات، واستمرار بث الرسائل الإيجابية لكافة القوى المعنية بالحل والخروج من الأزمة.

*رياض درار: الرئيس المشترك لمجلس سوريا الديمقراطية (مسد)

ADARPRESS #

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى