مانشيتمقالات رأي

الحكومة السورية ومهمة تفكيك بنية الإرهاب

محمود علي

مرة أخرى أطل الإرهاب بوجهه الدامي، ليضرب بحقده وهمجيته وتعطشه للدماء مدينة الياسمين دمشق، ويترك جرحاً إضافياً وغائراً في الجسد السوري المثقل والمنهك، ويضع السوريين بين أنياب كاشرة عطشى لسفك الدماء وإدامة العنف والإرهاب.

لا شك أن العملية الإرهابية بكل أبعادها وتوصيفاتها هزت الوجدان الوطني السوري والعالمي، ومقدمات حصول هكذا تفجيرات كانت واضحة لكل ذي بصر وبصيرة حتى قبل وقوعها، البيئة الخصبة لتنامي الإرهاب، ونشر الأفكار الظلامية لمسها السوريون – وما يزال – في الشارع وأماكن العمل ومحطات النقل، فأينما التفت المرء وجد وسمع خطاب التهديد والوعيد ضد الأديان والمذاهب والأعراق والطوائف، يرددها أصحابها دون خوف أو وجل من العواقب، الكتابات والعبارات الانتقامية تجدها قد ملأت الجدران، وتسمعها عبر مكبرات الصوت على العربات التي تصول وتجول في الشوارع، دون أي  رقيب أو حسيب أو حتى رادع أو محاسبة أو احترام لمشاعر الأديان الأخرى.

إلا أن السؤال الذي يطرحه كل سوري، هل الحكومة السورية الانتقالية بهيكليتها الراهنة، عاجزة عن حماية المدنيين من عنف وإرهاب الجماعات السلفية المتطرفة التي ما انفكت منذ اليوم الأول لسقوط النظام البائد عن نشر خطابها المسموم في الشارع السوري؟ أم أن المسألة برمتها ليست سوى مجرد توزيع للأدوار ما بينها؟، وأن الذهنية السابقة لجماعة السلطة عادت لتتحكم بسلوكها، خاصة بعد أن باتت تتستر تحت غطاء “الشرعية” وتعتقد أنه يحل لها ما كان محرماً عليها سابقاً، فيما يعتبر البعض أن امتلكت “نصف شرعية” من الخارج، وفقدت كامل الشرعية في الداخل، ومقارنة سلوكياتها ونمط تفكيرها وعملها مع الانتهاكات اليومية الحاصلة في كل المناطق السورية، والتي وصل حد الكوارث.

لا أحد يلقي التهم جزافاً للنيل من الحكومة، ولا أحد يتمنى أن تنزلق البلاد مرة أخرى إلى مستنقع الإرهاب والعنف الأعمى، والكل يرغب بحكومة قادرة على فرض الأمن والاستقرار وحماية سكانها من كل أنواع الإرهاب، وتضمن لهم الحق الكامل في ممارسة شعائره الدينية في جو من الحرية الكاملة. وجميع السوريين جاهزين للأخذ بيد الحكومة ومساعدتها في بسط سيادتها كدولة قانون ومؤسسات على كامل الأراضي السورية، ومحاصرة الأطراف والجهات الناشرة لخطاب الكراهية والانتقام والقتل. ويعتقد السوريون أن طاقم السلطة يعرف أصحاب تلك التوجهات أكثر من غيرهم، وربما تعرفهم بالأسماء، ولكن ما السر وراء صمت الحكومة وأجهزتها عن تلك الأفعال التي أوصل أصحابها إلى تفجير الكنيسة، وتهديد المارة بالشارع، وفرض قيمهم القرووسطية عليهم، هل هي غير قادرة على ضبطهم ومحاسبتهم وفق القانون؟ في كل الأحوال الإجراءات الخجولة للدولة والمتماهية مع الحالة السائدة في الشارع تجعلها شريكة معها، إن لم تبادر إلى إظهار تحرك جدي ومسؤول تجاه تلك الأطراف والجماعات، تداركاً لوقوع جرائم أخرى.

الحقيقة الساطعة كالشمس، أن انتهاكات المجموعات الجهادية المتطرفة الإرهابية بداية تقوض بنية وأركان الحكم قبل أن تحاول النيل من المكونات الدينية والعرقية الأخرى. سعي وجهود الرئيس “الشرع” ومعه طاقم حكومته لنزع صفة الإرهاب عن أنفسهم خلال الأشهر السبعة الماضية من وصولهم إلى سدة السلطة، إنما يتم تبديدها دون أي مسؤولية، وبشكل مكشوف ودون مواربة، ما دفع الكثيرين للاعتقاد أن إدارة هذه الأعمال تتم من قصر الشعب والدوائر الحكومية. وكي تكتسب الحكومة المصداقية عليها إثبات عكس هذا الاعتقاد الذي بات يتحول إلى يقين، في ظل اتساع رقعة الانتهاكات على كامل الجغرافيا السورية، ولم تعد مقتصرة على الساحل السوري وبعض الجيوب في مناطق معينة، بل غدا ظاهرة تتفشى كل يوم، في ريف حلب وحماة وحمص وحتى إدلب التي جاءت منها السلطة، وتلك المجاميع المتطرفة.

الرواية الحكومية الرسمية في إلقاء مسؤولية التفجير على تنظيم “داعش” الإرهابي، فندها بيان إحدى الجماعات المتطرفة المحسوبة على “هيئة تحرير الشام”، فيما لم تقدم الداخلية السورية أي رد أو تفسير على ذاك البيان المحمل بعبارات التهديد والاحتساب لأفعالها في قادم الأيام. فإن كانت الحكومة تخشى المواجهة مع تلك الجماعات الإرهابية المنفلتة، فإنه بالمقابل الشعب السوري يدفع أكلاف صمتها وعدم شروعها في وضع حد لتلك الجماعات، وإن لم تسارع الحكومة إلى اتخاذ إجراءات سريعة وصارمة عبر استئصال خلايا الإرهاب فإن الأوضاع تتجه نحو حرب أهلية وفوضى لا مثيل لها، وأول الخاسرين فيها هي الحكومة وأركانها، وربما يعود كل واحد منهم ليحتل موقعه السابق ضمن تنظيمه الجهادي، وينزع ربطة العنق ويرتدي الثوب القصير، ويتحول خلال ساعة إلى “جهادي” على غرار أخوته في العقيدة والإيديولوجيا.

العزاء الخجول للحكومة، دون إطلاقها تسمية “الشهداء” على ضحايا تفجير الكنيسة، يضع عدة إشارات استفهام وراءه، ويدعو للتشكيك في سعيها لقطع دابر تلك المجموعات، وكأنها تضمر نوايا مغايرة لما تظهره، أقل ما يقال عنها أنها لا تخدم جهود فرض الأمن والاستقرار، والتعامل على قدم المساواة مع جميع السوريين على أسس العدالة، واعتبارهم مواطنين لهم كامل الحقوق على الدولة في توفير كل أسباب الأمن وحمايتهم من التهديدات التي تطالهم.

إن غياب دور مؤسسات الدولة وضعف فعاليتها، يعزز بالمقابل قوة ونفوذ الجماعات المتطرفة المنفلتة من عقالها، وحتى تلك المؤسسات التي وضع على رأسها أشخاصاً ارتكبوا أعمالاً إرهابية – وهم بطبيعة الحال غير مؤهلين لإدارتها، وليس لديهم أية خبرات – يشكلون أكبر تهديد لوجود الحكومة، هذا الأمر تكرر كثيراً في المؤسسات العسكرية والأمنية وحتى القضائية، ما يجعل من إمكانية إحداث أي تغيير في توجه وعمل تلك المؤسسات مرهونة بالدرجة الأولى بتغيير هؤلاء المسؤولين والقيادات التي تم فرضها من الخارج، وتالياً تهيئة الأرضية لإعادة بناء تلك المؤسسات والإدارات على أسس وطنية، لا دينية ومذهبية أو تصب في خدمة أجندات الخارج، كي تتمكن من العمل بفعالية، وأول تلك المؤسسات المعنية هي المؤسستان الأمنية والقضائية. تغيير شكل أعضاء المؤسسة الأمنية ضرورة كي يتحول عنصر الأمن إلى شخص يلجأ إليه المواطن لحمايته، وليس لعنصر رعب وترهيب له.

تصاعد وتيرة خطاب الكراهية ضد الأقليات والمكونات المختلفة غير “السنية” في سوريا، فتح الطريق للوصول إلى هذا الوضع الكارثي الذي ينذر بتفجر الأوضاع، فقد تلا تفجير الكنيسة عدة تفجيرات في المزة وغيرها، وهو مؤشر خطير على وصول البلاد إلى حافة الانهيار الكامل، فيما الدوائر العليا في الحكومة منشغلة بتوقيع عقود وصفقات الاتفاقات الاقتصادية مع مختلف الجهات الخارجية، وكأنها تبحث عن تمكين وترسيخ نظامها في الخارج، وغير مكترثة كثيراً لما يعانيه الشعب من أزمات اقتصادية معيشية خانقة، لتأتي حالة عدم الاستقرار الأمني لتفرض نفسها على جميع اهتمامات وهموم السوري المغلوب على أمره.

كما أن الإعلام الموالي للسلطة، يحاول بشتى الوسائل تعويم الحالة التي تمر بها سوريا، عبر إلقاء المسؤولية على جهات معينة، وتجميل وجه السلطة وتنصلها من مسؤوليتها في حفظ الأمن الأهلي. وأظهر ذاك الإعلام الموجه والمؤدلج سقوطه الأخلاقي والمهني، عندما حاول إضفاء مسحة من “الشرعية” على تحركات أجهزة الحكومة وشروعها في الكشف عن مرتكبي تلك الجرائم والتفجيرات، دون تكبدها الكثير من العناء، والعودة إلى جذر المشكلة، والمطالبة بضرورة تفكيك تلك الجماعات المتطرفة، ونبذ خطابها الإرهابي، وتسليط الضوء على ماضيها والجرائم الضالعة فيها، ما يسهّل كشف حقيقتها للرأي العام، وبالتالي تفتح الطريق أمام فقدانها لحاضنتها الشعبية، وتبقى منبوذة يمكن اجتثاثها من جذورها بسهولة. والسلطة تملك تلك القوة والإمكانية العسكرية والتنظيمية التي تمكنها من تفكيك معظم تلك الجماعات، لأنها انبثقت من رحمها، وهي التي حمتها، وقدمت لها كل أنواع الدعم العسكري والمادي، إضافة إلى أنها كانت ضمن حاضنة فكرية وإيديولوجية واحدة طيلة الفترة الماضية، وتعرف تفاصيل تركيبتها الفكرية والعقائدية، ولا يتطلب تفكيكها بذل المزيد من الجهد، بل المسألة تتطلب بالدرجة الأولى الاقتناع التام بالخطوة، وكذلك إحداث حالة قطيعة تامة مع أفكارها المتزمتة والمتطرفة التي طالما جمعتهم في السابق.

لا يمكن لسوريا أن تنعم بالأمن والاستقرار إلا من خلال تحرك الحكومة للضرب بقوة على كل من تسول له نفسه في تصعيد خطاب الكراهية، ورفض الآخر المختلف معها دينياً ومذهبياً وفكرياً، وما أقدمت عليه السلطة الراهنة في بداية وصولها إلى سدة الحكم، عبر مؤتمر الحوار، وتشكيل الدستور وأيضاً الحكومة، ومؤخراً الدعوة لانتخابات مجلس الشعب، والاستفراد بقرار الدولة، جميعها كانت مقدمات مهدت ليطل الإرهاب برأسه من جديد. فهل سنشهد خلال قادم الأيام تغير ملحوظاً في توجهات وعمل الحكومة لتقويض بُنى الإرهاب ومرتكزاته، أم أن الأمور ستذهب نحو مزيد من التعقيد والانفجار؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى