مانشيتمقالات رأي

سوريا بين إسرائيل وإيران

محسن عوض الله

منذ اشتعال جبهة الصواريخ بين إيران وإسرائيل، والعالم يترقّب من سينتصر أولًا، ومن سيتراجع أخيرًا. صواريخ تضرب قلب تل أبيب، وأخرى تُشعل النيران في أحياء طهران، بينما ترتجف العواصم المحيطة بين الخوف والتوجس. الشرق الأوسط ينزلق نحو مرحلة أكثر توترًا من أي وقت مضى، والعيون كلها تتجه إلى السماء، حيث الموت قد يأتي بلا سابق إنذار.

حرب تدور بين خصمين تاريخيين، كلٌّ منهما يدّعي الحق، وكلٌّ يرى في الآخر عدوًا وجوديًا. لكن في مكانٍ ما بين الصواريخ والمواقف، هناك بلد لم يعد يحتمل أن يكون مجرد خلفية للصراع. بلد لا يرغب في أن يُستدرج مجددًا إلى مربع النيران. ذلك البلد هو سوريا.

سوريا التي خرجت للتو من نفقٍ مظلم، بعد أن أسقطت نظامًا استباحها لأكثر من نصف قرن، تجد نفسها اليوم في قلب نار لا تخصها. لا تميل دمشق إلى طهران، ولم تُصافح تل أبيب. بل لو خُيّر السوري بين انتصار الطرفين، لاختار هزيمتهما معًا. فإيران التي رفعت شعار “المقاومة” لم تجفّ يدها بعد من الدم السوري، وإسرائيل التي تزعم استهداف الخصوم، لم تكن يومًا دقيقة في تجنّب بيوت السوريين وذاكرتهم.

الضربات المتبادلة بين الطرفين لم تمرّ دون أثر على الأرض السورية. ورغم أن ساحة المعركة لم تعد دمشق أو حلب، فإن شظايا الحرب ما تزال تتساقط على القنيطرة ودرعا وطرطوس. حطام صواريخ، طائرات مسيّرة، ومخاوف لا تنتهي من أن تصبح سوريا مجددًا الحطب الرخيص في نار الآخرين.

في سوريا الجديدة، ما بعد الأسد، خاصة بعد موافقة الحكومة الجديدة على الانضمام للاتفاقات الإبراهيمية، وتسليم ملف الجاسوس الإسرائيلي أيلي كوهين. لم يعد المواطن يثق بشعارات “محور المقاومة”، ولا بتصريحات “الردع الإسرائيلي”. فقد جرّب الاثنين معًا، وذاق مرّ الاحتلال حين تلبّس العباءة الإيرانية، كما اختبره حين جاء على جناح المقاتلات الإسرائيلية. ولذا، لم يعد في وجدان السوريين مساحة لأي تعاطف. إيران وإسرائيل، كلاهما في ميزانهم خصمان لا يُفرَّق بينهما إلا في الأسلوب، لا في النتيجة.

لا يقف السوريون على أبواب السفارات داعمين لهذا أو ذاك، لا يوزعون الورود، ولا يرفعون شعارات النصر دعماً لطهران أو تل أبيب. السوري، المنهك من سنوات القصف والخذلان، ينظر إلى السماء ويهمس: “اللهم خذهما معًا… وخلّينا”.

سوريا الجديدة لا تطلب أكثر من أن تُترك وشأنها. لا تريد أن تكون ساحة لحروب الآخرين، ولا هدفًا لصواريخ لا تفهم لهجة البلاد ولا وجعها. تريد فقط أن تبني، أن تزرع، أن تحمي أطفالها من الذعر، وأن توقف عدّاد القتلى الذي لم يتوقف منذ عقدٍ وأكثر.

نعم، سوريا تحارب رغم أنفها، لكنها هذه المرة لا تحمل بندقية، بل تحمل ذاكرة. ذاكرة مليئة بالغدر، بالخسارة، بالألم. ومن بين كل هذا، تولد الرغبة في أن يُهزم الجلادان معًا، ويعود الناس إلى بيوتهم دون أن يُطلب منهم تحديد موقعهم في خريطة صراع لا تشبههم.

سوريا اليوم في موقع لا يشبه سوى نفسها؛ بلد أنهكته التحالفات، وخذلته الحسابات، ودفع أثمانًا باهظة لصراعات لم يصوّت لها يومًا. فليس ما يجري على حدودها أو في سمائها صراعًا يُمثّلها، ولا الطرفان المتنازعان ينتميان لقضيتها.

سوريا لا تنتظر نصرًا من أحد، ولا تفتح نوافذها لفرح زائف. كل ما تريده هو أن تُغلق هذا الباب المفتوح على الريح، وأن تستعيد حقها في أن تعيش كما تشاء، لا كما يقرره الآخرون.

هذه البلاد، التي أرهقها القصف والخذلان، لا تطلب أكثر من هدنة مع التاريخ. أن يُرفع عنها سلاح الخصوم، وأن تُمنح فرصة أخيرة لترميم ما تبقى من حياة فوق أرض أنهكها الانتظار. فلا مصلحة لها في أن تنتصر إيران، ولا عزاء لها إن هُزمت إسرائيل. ما تريده حقاً… أن يُهزم الطرفان، أو أن يخرجا من مشهدٍ لم يكونا فيه يومًا إلا غرباء يحملون الدمار في جيوبهم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى